أرضنا ببساطة لم تعد ولادة
تم نشره الخميس 30 آب / أغسطس 2012 01:41 مساءً

ديمة طهبوب
في تصنيفات الرجال الأكثر تأثيرا في العالم، يحتل بيل غيتس دائما مواقع متصدرة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية الانسانية والتكنولوجية، ومع أنه جاء من عائلة من الطبقة المتوسطة لأب محام وأم تعمل في مجال البنوك، ولكن بالجد والاجتهاد والمثابرة وتوفر الفرص في أرض الأحلام أمريكا، تمكن في سنين قليلة أن يصبح أغنى رجال العالم، والشريك الأكبر ورئيس مجلس إدارة شركة مايكروسوفت للكمبيوتر والبرمجيات.
وفي محاضرة لبعض تلاميذ المدارس الثانوية، نقل لهم غيتس خلاصة خبرته، وكيف صار الى ما صار إليه، فقال إن العالم يتوقع منكم إنجاز شيء قبل الاعتراف بكم، وإن قلي البرغر وغسل الصحون ليس عيبا، وما ترونه كحط لكرامتكم رآه أجدادنا كفرصة واجبة الاقتناص، وإذا أخطأتم فهذه ليست مشكلة آبائكم لأنهم لم يحسنوا تربيتكم، إنها مشكلتكم وعليكم مواجهة أخطائكم بشجاعة ومسؤولية، وقبل أن تنقذوا الدنيا وتحدوا من انتشار الأسلحة النووية والاحتباس الحراري، ابدؤوا بتنظيف غرفكم وترتيب خزائنكم، لن يساعدكم أحد على إيجاد أنفسكم ولا تحقيق أحلامكم ما لم تتخذوا الخطوة الأولى بأنفسكم، والحياة ليست برومانسية أفلام التلفاز، في واقع الحياة لا يمضي الناس وقتهم في المقاهي، بل يذهبون إلى الوظيفة والكد.
مهما اختلفنا أو اتفقنا على مبادئ العالم الرأسمالي، إلا أننا لن نختلف على أن دول هذا العالم تحترم قيمة الانسان وعمله، وتعتبرهما المؤهل الأول والأهم للمنافسة والمنصب، فها هو محام أسود في بلد كان يستعبد السود، وخاض حروبا دامية للابقاء على عبوديتهم، وساوى بينهم وبين الكلاب، وكان يعتبر قتلهم وقصاصهم -كما كانت تفعل جماعات تعرف بـ»الكلوكلوكس كلان»- تقربا للرب، يصبح رئيسا لأمريكا ويكون شعار حملته «نعم نستطيع»Yes We Can، ومن قبله أصبح ممثل السينما رونالد ريغان أيضا رئيسا، وكذلك النساء في ألمانيا التي كانت في عهدها النازي تعلي من السلطة والتسلط الذكوري وصلن أعلى الهرم السياسي والتنفيذي.
أما الدول العربية فاستباحة وانتهاك الانسانية تسودها على مختلف المستويات، ومنها تولي المناصب، حيث يغلب وضع الرجل غير المناسب في المكان المناسب، وحيث لا يكون للمجتهد أي نصيب ولا مكان للتفوق الأكاديمي، ولا التميز الشخصي أو الانجاز الوظيفي، ويكون النسب والصلات ورأس المال والولاء المطلق من أسباب التفضيل.
والعالم العربي يعاني من ردة صارخة ومعلنة تجاه الإرث، والتوجيهات الدينية التي تؤكد رفعة المرء بإيمانه ومؤهلاته في ثنائية متلازمة، فليس الإيمان وحده الحكم في تولي المسؤولية، وهذا ما أفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر عندما سأله الولاية، وكان من خيرة الصحابة المتقدمين، فقال له: «إنك لضعيف، وإنها لأمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من قام بحقها، وأدى الذي عليه فيها».
ولقد تقدم في صحبة الرسول وخدمة المسلمين من كانوا عبيدا وموالي مثل بلال وعمار وسلمان، وقد بلغ من منزلة سلمان الفارسي عند الصحابة أن أراد المهاجرون و الأنصار نسبته إليهم، حتى نسبه الرسول عليه السلام الى آل البيت الذين تصلهم صلاة ودعاء أمة محمد الى يوم الدين، وخلد العرب تفوقا لأفراد في مكارم الأخلاق من غير علية القوم، فقال الشاعر يمدح أحد الخلفاء بأخلاقهم:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ** في حلم أحنف في ذكاء إياس
وسلك معن بن زائدة دروب المعالي، وساد قومه، ولم ينزعج عندما ذكَّره الشاعر بأصله، وكيف بدأ حياته فقال له:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة ** وإذ نعلاك من جلد البعير
فرد عليه معن: أذكر ولا أنسى
فقال الشاعر:
فسبحان الذي أعطاك ملكا ** وعلمك الجلوس على السرير
فرد معن الفضل إلى الله قائلا: سبحانه يعز من يشاء، ويذل من يشاء.
ولم ينتكس الحكم الاسلامي الا عندما أصبح جبرا، لا اختيارا وتفضيلا وشورى، ومع ذلك تشهد صفحات التاريخ بأناس فضلوا العام على الخاص، والأمة على العائلة والنسب، فرفض سيلمان بن عبدالملك عند موته تولية الخلافة لابنه، وقال: «لأعقدن عقداً لا يكون للشيطان فيه نصيب»، فعهدها إلى عمر بن عبدالعزيز.
ولقد أسقط الاسلام التقدم بالأنساب، فيوم القيامة والحساب يحكم على المرء بعمله لا بنسبه، إذ قال تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون).
وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال: قلت لجعفر بن أبي طالب وكان والي المدينة: احذر أن يأتي غدا رجل ليس له في الاسلام نسب ولا أب ولا جد فيكون أولى برسول الله صلى الله عليه وسلم منك، كما كانت امرأة فرعون أولى بموسى، وكما كانت امرأة نوح وامرأة لوط أولى بفرعون، ومن بَطَّأ به عمله لم يُسرع به نسبه، ومن أسرع به عمله لم يُبطئ به نسبه».
وأمسك الرسول بيد فاطمة، وقال لها: «يا فاطمة يا بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا»، ولم يمنع شرف الأصل من إقامة الحد على المرأة المخزومية عند اقترافها للذنب.
في ظل معطيات العصر الحديث الذي لا يعترف بمقومات الانسان، ندمت أشد الندم على أن أبي لم يورثني مهنته كطبيب، وبالتالي لن أرث موقعه السابق في رئاسة نقابة الأطباء، وذهب حلمي بالمنصب أدراج الرياح!! فهل فات الوقت لأدرس الطب أو أحصل شهادة مزورة أو أي شيء يمكنني من استعادة إرث أبي غصبا واحتيالا؟
أرضنا ببساطة يا سادة لم تعد ولادة، لذا نلجأ الى استنساخ حكامنا ومن يدير أمورنا، ومن كثرة تعلقنا بهم كتعلق القط بخناقة، نسلم رسننا بالتوارث بين الأصل والصورة والأب وابنه أو ابنته، فاقرؤوا الفاتحة على أموال الضمان الاجتماعي. في مثالية من الزمان قال الشاعر:
كن ابن من شئت و اكتسب أدبا ** يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من قال ها أنا ذا ** ليس الفتى من قال كان أبي
وسنبقى نلح ونذكر بأيام المثالية، وسالف عهد المجد لعل قطرات الماء تفتّ الصخر، ويدور الزمان دورته، وتتداول الأيام، ويمكث في الأرض ما ينفع، ومن ينفع الناس. ( السبيل )
وفي محاضرة لبعض تلاميذ المدارس الثانوية، نقل لهم غيتس خلاصة خبرته، وكيف صار الى ما صار إليه، فقال إن العالم يتوقع منكم إنجاز شيء قبل الاعتراف بكم، وإن قلي البرغر وغسل الصحون ليس عيبا، وما ترونه كحط لكرامتكم رآه أجدادنا كفرصة واجبة الاقتناص، وإذا أخطأتم فهذه ليست مشكلة آبائكم لأنهم لم يحسنوا تربيتكم، إنها مشكلتكم وعليكم مواجهة أخطائكم بشجاعة ومسؤولية، وقبل أن تنقذوا الدنيا وتحدوا من انتشار الأسلحة النووية والاحتباس الحراري، ابدؤوا بتنظيف غرفكم وترتيب خزائنكم، لن يساعدكم أحد على إيجاد أنفسكم ولا تحقيق أحلامكم ما لم تتخذوا الخطوة الأولى بأنفسكم، والحياة ليست برومانسية أفلام التلفاز، في واقع الحياة لا يمضي الناس وقتهم في المقاهي، بل يذهبون إلى الوظيفة والكد.
مهما اختلفنا أو اتفقنا على مبادئ العالم الرأسمالي، إلا أننا لن نختلف على أن دول هذا العالم تحترم قيمة الانسان وعمله، وتعتبرهما المؤهل الأول والأهم للمنافسة والمنصب، فها هو محام أسود في بلد كان يستعبد السود، وخاض حروبا دامية للابقاء على عبوديتهم، وساوى بينهم وبين الكلاب، وكان يعتبر قتلهم وقصاصهم -كما كانت تفعل جماعات تعرف بـ»الكلوكلوكس كلان»- تقربا للرب، يصبح رئيسا لأمريكا ويكون شعار حملته «نعم نستطيع»Yes We Can، ومن قبله أصبح ممثل السينما رونالد ريغان أيضا رئيسا، وكذلك النساء في ألمانيا التي كانت في عهدها النازي تعلي من السلطة والتسلط الذكوري وصلن أعلى الهرم السياسي والتنفيذي.
أما الدول العربية فاستباحة وانتهاك الانسانية تسودها على مختلف المستويات، ومنها تولي المناصب، حيث يغلب وضع الرجل غير المناسب في المكان المناسب، وحيث لا يكون للمجتهد أي نصيب ولا مكان للتفوق الأكاديمي، ولا التميز الشخصي أو الانجاز الوظيفي، ويكون النسب والصلات ورأس المال والولاء المطلق من أسباب التفضيل.
والعالم العربي يعاني من ردة صارخة ومعلنة تجاه الإرث، والتوجيهات الدينية التي تؤكد رفعة المرء بإيمانه ومؤهلاته في ثنائية متلازمة، فليس الإيمان وحده الحكم في تولي المسؤولية، وهذا ما أفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر عندما سأله الولاية، وكان من خيرة الصحابة المتقدمين، فقال له: «إنك لضعيف، وإنها لأمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من قام بحقها، وأدى الذي عليه فيها».
ولقد تقدم في صحبة الرسول وخدمة المسلمين من كانوا عبيدا وموالي مثل بلال وعمار وسلمان، وقد بلغ من منزلة سلمان الفارسي عند الصحابة أن أراد المهاجرون و الأنصار نسبته إليهم، حتى نسبه الرسول عليه السلام الى آل البيت الذين تصلهم صلاة ودعاء أمة محمد الى يوم الدين، وخلد العرب تفوقا لأفراد في مكارم الأخلاق من غير علية القوم، فقال الشاعر يمدح أحد الخلفاء بأخلاقهم:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ** في حلم أحنف في ذكاء إياس
وسلك معن بن زائدة دروب المعالي، وساد قومه، ولم ينزعج عندما ذكَّره الشاعر بأصله، وكيف بدأ حياته فقال له:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة ** وإذ نعلاك من جلد البعير
فرد عليه معن: أذكر ولا أنسى
فقال الشاعر:
فسبحان الذي أعطاك ملكا ** وعلمك الجلوس على السرير
فرد معن الفضل إلى الله قائلا: سبحانه يعز من يشاء، ويذل من يشاء.
ولم ينتكس الحكم الاسلامي الا عندما أصبح جبرا، لا اختيارا وتفضيلا وشورى، ومع ذلك تشهد صفحات التاريخ بأناس فضلوا العام على الخاص، والأمة على العائلة والنسب، فرفض سيلمان بن عبدالملك عند موته تولية الخلافة لابنه، وقال: «لأعقدن عقداً لا يكون للشيطان فيه نصيب»، فعهدها إلى عمر بن عبدالعزيز.
ولقد أسقط الاسلام التقدم بالأنساب، فيوم القيامة والحساب يحكم على المرء بعمله لا بنسبه، إذ قال تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون).
وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال: قلت لجعفر بن أبي طالب وكان والي المدينة: احذر أن يأتي غدا رجل ليس له في الاسلام نسب ولا أب ولا جد فيكون أولى برسول الله صلى الله عليه وسلم منك، كما كانت امرأة فرعون أولى بموسى، وكما كانت امرأة نوح وامرأة لوط أولى بفرعون، ومن بَطَّأ به عمله لم يُسرع به نسبه، ومن أسرع به عمله لم يُبطئ به نسبه».
وأمسك الرسول بيد فاطمة، وقال لها: «يا فاطمة يا بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا»، ولم يمنع شرف الأصل من إقامة الحد على المرأة المخزومية عند اقترافها للذنب.
في ظل معطيات العصر الحديث الذي لا يعترف بمقومات الانسان، ندمت أشد الندم على أن أبي لم يورثني مهنته كطبيب، وبالتالي لن أرث موقعه السابق في رئاسة نقابة الأطباء، وذهب حلمي بالمنصب أدراج الرياح!! فهل فات الوقت لأدرس الطب أو أحصل شهادة مزورة أو أي شيء يمكنني من استعادة إرث أبي غصبا واحتيالا؟
أرضنا ببساطة يا سادة لم تعد ولادة، لذا نلجأ الى استنساخ حكامنا ومن يدير أمورنا، ومن كثرة تعلقنا بهم كتعلق القط بخناقة، نسلم رسننا بالتوارث بين الأصل والصورة والأب وابنه أو ابنته، فاقرؤوا الفاتحة على أموال الضمان الاجتماعي. في مثالية من الزمان قال الشاعر:
كن ابن من شئت و اكتسب أدبا ** يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من قال ها أنا ذا ** ليس الفتى من قال كان أبي
وسنبقى نلح ونذكر بأيام المثالية، وسالف عهد المجد لعل قطرات الماء تفتّ الصخر، ويدور الزمان دورته، وتتداول الأيام، ويمكث في الأرض ما ينفع، ومن ينفع الناس. ( السبيل )