إسـرائيل إذ تفتح بوابات «خطها الأخضـر»

ينشغل كتاب ومحللون وناشطون فلسطينييون في معرفة الدوافع والأهداف الكامنة وراء موجة التصاريح التي “منحتها” سلطات الاحتلال الإسرائيلي لعشرات ألوف العمال ورجال الأعمال والمتنزهين الفلسطينيين لعبور الخط الأخضر والعمل والتجول والاتجار في إسرائيل ومعها، في خطوة غير مسبوقة (ربما) منذ قيام السلطة الفلسطينية، والمؤكد منذ اندلاع الفلسطينية الثانية.
بعضهم أرجع الخطوة الإسرائيلية إلى سيادة الأمن والأمان في الضفة الغربية، فالسلطة تقوم بـ”واجبها” في حفظ الأمن، أمنها والأمن الإسرائيلي معاً، بعد أن صار متعذراً التفريق بين متطلبات كل منهما...حتى أن أحداً بالكاد يستطيع أن يتذكر متى كانت آخر محاولة لاستهداف جندي أو مستوطن إسرائيلي، داخل الخط الأخضر وخارجه....لقد بلغ مستوى الأمن الإسرائيلي في الضفة حداً يماثل مستوى الأمن الإسرائيلي داخل إسرائيل، فلماذا استمرار الحذر والتحوط والإستنفار، وفقاً لما يقوله أصحاب وجهة النظر هذه، التي تنطوي على قدر كبير من “الوجاهة” من وجهة نظر كاتب هذه السطور، وإن كانت لاتختصر المسألة برمتها.
بعضهم الآخر، أرجع الخطوة الإسرائيلية إلى “عوامل ضاغطة” على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث توفر خطوة كهذه ملايين “الشواقل” لهذا الإقتصاد الذي يعاني ركوداً ظاهراً، وتتسع الحركات الإحتجاجية المطالبة بمعالجة مشكلات الفقر والبطالة وتآكل المداخيل وتراجع التقدمات الصحية والإجتماعية (ودائماً بالمعايير الإسرائيلية)...لا أرقام “كلية” محددة يتقدم بها أصحاب وجهة النظر هذه للدلالة على جدية هذا التحليل و”رزانته”، بل معلومات متفرقة عن هذه “المنشأة أو ذاك “المول” الذي استفاد من دفق السائحين والمتسوقين الفلسطينيين في زيادة مبيعاته، وتسديد بعض ما تأخر – وربما ما تقدم – من التزاماته وإنفاقه الجاري...كاتب هذه السطور، لا معلومات “رقمية” لديه، لكن بضع عشرات الملايين من “الشواقل” أو حتى بضع مئات منها، لا تكفي لإحداث فرق ذي بال في اقتصاد وسوق عملاقين، كالاقتصاد والسوق الإسرائيليين.
فئة ثالثة من المحللين والمهتمين ترد المسألة ٌإلى جذرها “السياسي”، وترى في “التسهيلات” الإسرائيلية غير المسبوقة، “قراراً سياسياً” بإمتياز...هدفه الأول (وليس الوحيد)، إعادة ربط فلسطينيي الضفة بإسرائيل، اقتصاديا ومعيشياً وبسيكولوجياً، ومن على قاعدة أن السلطة الفلسطينية تمنح مواطنيها هويتها، في ظل رفض إسرائيل منح “هويتها” للشعب الرازح تحت احتلاليها القديم والجديد، والسلطة يكفي منها أنها تقوم بدور “رجل الشرطة” الذي يحفظ أمنها وأمنه الذاتي، أما باقي جوانب وأوجه حياة الفلسطيني، فيجب أن يُعاد ربطها بـ”سلطة الاحتلال”.
إسرائيل التي رسمت سقوفاً عليا لتطور السلطة، لا تتخطى الحكم الذاتي المنقوص...إسرائيل التي لا ترى في السلطة سوى سياج أمني يحمي الاحتلال والاستيطان...إسرائيل التي تتعامل مع السلطة كوسيلة لامتصاص “فائض الديموغرافيا” الفلسطينية...إسرائيل تريد لهذه السلطة أن تستمر، وأن تؤدي وظائفها المذكورة على أكمل وجه، لا شيء غير ذلك أو فوق ذلك على الإطلاق.
هي إذن، خطوة إضافية تُكمل باليد الثانية ما بدأته إسرائيل بيدها “الإستيطانية” الأولى...هي محاولة للقضاء على “السلطة” كنواة للدولة وتقرير المصير، والإبقاء عليها كـ”جدار عازل” افتراضي، خلف الجدار العازل الواقعي، فضلاً عن وظيفتها كوعاء لامتصاص “مخرجات” الإستيطان والتهويد والأسرلة الزاحفة.
لا يمكن بحال النظر للخطوة الإسرائيلية من زاوية “إجراءات بناء الثقة” أو إدراجها في سياق “التطبيع” مع الشعب الفلسطيني وسلطته...هي أبعد ما تكون عن ذلك، سيما وأنها لا ترتبط بأي إجراء لوقف الاستيطان أو إبطائه بل على العكس من ذلك تماماً، فهي تزامنت مع توسيع “القدس” وإضافة مستوطنات جديدة إليها...كما أنها لم تفض إلى رفع الحصار عن القطاع المنكوب، بل بالعكس من ذلك تماماً أيضاً، حيث تزامنت مع استئناف الغارات والاغتيالات ضد القطاع المحاصر ونشطائه المطاردين...لكأن إسرائيل تريد أن تقول لأهل الضفة: استمتعوا كما شئتم على شواطئ يافا وحيفا، واغرفوا من أسواق إسرائيل، وعودوا لتشغيل المصانع والمزارع الإسرائيلية، ودعكم من حكايا الثورة والانتفاضة والربيع العربي، وحذار حذار من المقامرة بمصائر شبيهة بما آلت إليه مصائر أشقاءٍ لكم في غزة، منكوبين بـ”حكم حماس” لها ولهم...تلكم هي الرسائل المتراكبة التي أرادت إسرائيل توجيهها عبر سياستها الانفتاحية “المُلغمة” الجديدة، وهي رسائل لا تتعارض مع أية “فوائد إضافية” يمكن لإسرائيل أن تجنيها على
( الدستور )