عندما تمدّ الحكومة رجليها!!

يذكر المؤرخون عن الإمام أبي حنيفة النعمان أنّه قال: "آن لأبي حنيفة أن يمد رجله"، كناية عن الموقف الذي يتمّ فيه اكتشاف الحقيقة المتعلقة بالخصم، وذلك عندما كشف الرجل الذي جاء يحاوره عن جهلٍ عميق ومستوى فقهي ضحل يتمتع به من خلال حديثه وأسئلته، ممّا جعل أبا حنيفة يستند إلى الحائط ويطلق عبارته المشهورة المصحوبة بتنهيدة عميقة التي أصبحت مثلاً، فهو لا يريد مزيداً من مضيعة الوقت مع هذا الرجل الذي لا يكاد يفقه شيئاً.
ويبدو أنّ حكومة الطراونة استندت إلى الحائط مسترخية، وقد مدت رجليها في حضرة الشعب الأردني، ولم تكتف بمد الرجلين بل وضعتهما في ماءٍ بارد، وأخذت تصدر قراراتها بلا أدنى حساب لحراك الشارع، أو لصراخ المتظاهرين في ساحة النخيل، وفي شوارع إربد والكرك والطفيلة، ولذلك أقدمت على رفع أسعار الوقود مرتين، والمرة الثانية كانت مفاجئة ومن دون تمهيد ومن دون توطئة أو تهيئة، فلم تعد هناك حاجة لمثل هذه التوجسات، كما أقدمت بشجاعة نادرة على مواجهة أصحاب البسطات، بعد أن كان هناك رعب لدى الحكومات العربية من الإقدام على التحرش بأيّ صاحب بسطة، خوفاً من تكرار درس البوعزيزي، ثم عادت الحكومة إلى الأعراف السابقة نفسها التي كانت تمارسها قبل "الربيع العربي"، بتعيين المحاسيب.
يبدو أنّ التقارير الأمنية التي ترصد الحراكات الشعبية، والحالة السياسية، دفعت الحكومة إلى سياسة "مد الرجلين"، وذلك باختصار أنّ الأعداد التي تواظب على الخروج للتظاهر لم تصل إلى ذلك الحد المقلق ، ولم تستطع الوصول إلى تلك المرحلة المؤثرة والضاغطة على أصحاب القرار لانتزاع التنازلات والخطوات الجادة في التغيير والإصلاح، كما أنّ التقارير الأمنيّة وقفت على حالة الانقسام الحاد بين القوى السياسية على الساحة المحلية، فأصبحت الحركة الإسلامية ومعها الحراكات الشعبية في الأطراف والمحافظات في جانب، والقوى اليسارية والقومية في جانب آخر، التي تحاول جاهدة أن تنأى بنفسها عن الانخراط في مشروع الإصلاح جنباً إلى جنب مع الإسلاميين، ويعود ذلك لسبب رئيسي يتخلص بأنّ صناديق الاقتراع التي سوف تكون لها الكلمة الفصل في المشهد السياسي العربي على الجملة لا تصب لمصلحتها، ممّا جعلها تتبنّى خطاب المؤامرة وتطعن بثورة الشعوب العربية وانتفاضتها على الاستبداد والفساد، ولقيت في المشجب السوري، ما يستحق الراحة وإلقاء العصا.
ربما تكون هذه المؤشرات التي دفعت الحكومة للاسترخاء حقيقية وواقعية، ولكنّها بكل تأكيد مؤقتة وليست دائمة، كما أنّ هذه النظرة تتسم بقصر النظر، ولا تنظر إلى الأفق البعيد، وتخلو من الحس الاستراتيجي، فالمنطقة تشهد حالة تحول جذري وعميق وليست هبّة أو عاصفة مؤقتة يتم تفاديها بقليل من الانحناء، بل إنّ الأيام المقبلة سوف تكشف عن عمق التحول وجذريته، وما تمّ هو عبارة عن مقدمة وتوطئة وإرهاصات، لمن يستطيع التقاط الفرصة واستغلال الوقت واستثماره في التكيف الحقيقي مع متطلبات التحول نحو الحرية والديمقراطية والتدرج السلمي في تسليم السلطة إلى الشعوب بطريقة أقل تكلفة، والتكيف مع عصر الشعوب والجماهير التي تختزن الوعي، وتختزن المعرفة العميقة والاطلاع على حجم الفساد وعمق المأساة التي صنعتها أنظمة الاستبداد والقمع، والتي اعتمدت مبدأ مصادرة إرادة الشعوب والسطو على مقدراتها ونهب المال العام، وعجزت كل العجز عن تحرير الأرض المغتصبة، وعن امتلاك القوة الحقيقية على مواجهة الغزو الأجنبي.
إنّ إدارة الظهر لمطالب الإصلاح المشروعة، والإصرار على إعادة تشكيل الصورة السابقة، والتمسك بأدوات الفساد، وشخوصه، سوف يؤدي إلى مشهد من لونٍ آخر ، يجعل حجم الخسارة كبيراً وحينها يكون الوقت المتاح للإنقاذ قد نفد، ولا ينفع عندئذ عض أسنان الندم. والعاقل من اتعظ بغيره، والشقيّ من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني.
( العرب اليوم )