المسكِّن لم يعد يكفي

تدارك تجميد قرار رفع أسعار الوقود، الموقف، مؤقَّتاً؛ فعند صدور هذا القرار، الذي يفتقر إلى الحدّ الأدنى مِنْ البصيرة السياسيَّة، تصاعد التوتّر في البلاد إلى حدٍّ ينذر بمخاطر لا يستطيع التنبّؤ بمداها أحد. فالمنطقة، وبلادنا في قلبها، تعيش ظروفاً استثنائيَّة؛ الأمر الذي يحتاج إلى الكثير من الحكمة وبعد النظر في التعامل مع أيّ حدث أو تطوّر، محلِّيّ أو إقليميّ أو دوليّ. وهذا ما تفتقر إليه، في الواقع، الحكومة الحاليَّة؛ فهي، بدلاً مِنْ أنْ تعالج الأخطاء وجوانب الخلل، تزيدها؛ وبدلاً مِنْ أنْ تدرأ المخاطر وتحتاط لها، تدفع البلاد إليها دفعاً. إلى حدّ أنَّها أصبحت، هي نفسها، مشكلةً أساسيَّة مِنْ مشاكل البلاد، وتحتاج إلى علاجٍ عاجلٍ وحاسم، قبل أنْ تقود سفينة الوطن، وسط هذا المحيط المتلاطم الأمواج والمليء بالتيَّارات الجارفة والقراصنة، إلى لُجَّةٍ لا يمكن الرجوع منها.
لقد جاءتْ هذه الحكومة، بالأصل، لإنجازٍ غرضٍ أساسيٍّ واحد، هو الإعداد للانتخابات النيابيَّة وتهيئة الظروف الملائمة لها؛ لكنَّها، منذ البداية، انشغلتْ بالتصادم مع الحراك، وباتِّخاذ قراراتٍ خلافيَّة يُفْتَرض أنْ لا تُقدم على اتِّخاذها حكومة مؤقَّتة وذات مهمّة محدَّدة تتطلّب منها التركيز عليها بشكلٍ كامل. فمِنْ اعتقال شباب الحراك في الطفيلة، إلى اعتقال شباب الحراك المتضامنين معهم عند الدوّار الرابع، إلى حبس الصحافيين، إلى أزمة المياه الشاملة والمتواصلة وغير المسبوقة، إلى رفع أسعار الوقود أكثر مِنْ مرَّة، إلى الاقتراض مِنْ صندوق النقد الدوليّ والخضوع لإملاءاته، إلى صفقة الصخر الزيتيّ ، إلى الضيق بحريَّة التعبير ومحاولة تقييدها بقانون دونكوشوتيّ للمطبوعات تفوح منه روائح عرفيَّة، إلى تسييج الدوّار الرابع بالقضبان الحديديَّة.. لأنَّ رئيس الوزراء لا يستطيع أنْ يتحمَّل مرأى المحتجّين قبالة مكتبه، إلى التعيينات الأخيرة في الوظائف العليا، التي استفزَّتْ الناس، وأفقدتهم الأمل بإمكانيَّة المعالجة الهادئة والحكيمة لملفّ الفساد، وأثارتْ قلقهم الشديد، بشكلٍ خاصّ، على مصير مدَّخراتهم في الضمان الاجتماعيّ. وكاد قرار رفع أسعار الوقود الأخير أنْ يكون الشعرة التي تقصم ظهر البعير، لولا المبادرة العاجلة إلى تجميده.
لقد تباهى رئيس الوزراء، منذ مجيئه، بأنَّه لا يهتمّ بالحصول على الشعبيَّة؛ أي أنَّه لا يهتمّ برضا الناس عن قراراته. ولم ينتبه، كما يبدو، إلى أنَّه لا يستطيع، في هذه الظروف المتفجِّرة، أنْ يحقِّق شيئاً من النجاح في عمله، ويتعامل مع الأزمات بشكلٍ ملائم، ويجنِّب البلاد المخاطر والمنزلقات، إذا لم يتمكّن مِنْ تهدئة خواطر الناس، وبثِّ شيءٍ من الطمأنينة في نفوسهم، والاستماع إلى مطالبهم وشكاواهم، والاستجابة ما أمكن للمحقّ منها، ومسايرتهم. لكن، كان واضحاً، طوال الوقت، أنَّ رئيس الوزراء ينظر إلى الأمور، ويتعامل معها، بطريقةٍ لا تلحظ الواقع المتفجِّر الحاليّ؛ بل كما لو أنَّ الزمن لم يتحرّك منذ عهد حكومته الأولى.
نعم، لقد تدارك تجميد قرار رفع أسعار الوقود خطر انفجار الأوضاع بشكلٍ دراماتيكيّ؛ لكنَّ هذا حلّ جزئيّ، فقط، ومؤقَّت. وتجب ملاحظة أنَّ مستوى التوتّر في البلاد، بعد هذا القرار والقرارات السيّئة الأخرى التي سبقته، قد انتقل إلى طورٍ جديد لا ينفع معه مثل هذا المسكِّن. مطلوب، الآن، بشكلٍ عاجل، رحيل هذه الحكومة، التي لا يوحي استمرارها في سدّة السلطة بالحدّ الأدنى من الثقة والطمأنينة، والعودة عن جميع قراراتها السيّئة، وتشكيل حكومة جديدة مِنْ شخصيَّاتٍ نظيفة وواعية وشجاعة ولديها شعور عال بالمسؤوليَّة الوطنيَّة، ووضع خطَّة مدروسة لمعالجة أوضاع البلاد المتردِّية بشكلٍ جذريّ .( العرب اليوم )