غزة ..أو «الفياضية» معكوسةً

اذا كانت الضفة الغربية موطن “الفياضية” ومجال اختبارها الحيوي الأول...فان قطاع غزة قد تحول منذ العام 2006، وبالأخص بعد عام 2007، الى حقل لاختبار “فياضية” من نوع جديد، “فياضية معكوسة” ان جاز التعبير، تفترق ظاهرياً مع “فياضية” سلام فياض وسلطة الرئيس محمود عباس، لكنها تتفق معهما في المحصلة والمآلات النهائية.
“فياضية” الضفة، تستهدف بناء الدولة تحت جلد الاحتلال وان بشروطه...تنشد بناء المؤسسات وتستمر في التنسيق الأمني...”فياضية” القطاع، تنشد أيضاً بناء “الدولة\الامارة”، بالتهدئة مع الاحتلال وتفادي استفزازه...”فياضية” الضفة تكرس نصيباً وافراً من مواردها لحفظ الأمن، أمنها الخاص، واستتباعاً أمن اسرائيل...”فياضية” القطاع تفعل شيئاً مماثلاً، اذ ترصد جزءاً رئيساً من مواردها، للانفاق على أجهزة تكفل “سلطتها المنفردة” وتحفظ التهدئة....”فياضية” الضفة اقصائية، لا مطرح فيها لمعارضين حقيقيين، تستهدف نشطاء حماس والجهاد (وكل من خرج عن الحدود المقبولة لمعارضة الفصائل اليسارية)...”فياضية” القطاع اقصائية هي الأخرى، منتهكة للحقوق والحريات، ولا تتورع عن ممارسة “القوة المفرطة” و”الأمن الخشن” ضد خصومها...كلا الفياضيتين، لم تمسسهما “روح الثورة” التي تطوف بفضاءات المدن العربية، وتقاومان هبوب رياح الحرية والديمقراطية والتغيير التي تعصف بالمنطقة.
السلطة في المقام الأول والأخير، هي الهدف الأسمي لـ”الفياضية” و”الفياضية معكوسة”...ولأجل ممارسة السلطة والبقاء فوق هرمها، لا بد من “البحث عن دولة”، سواء كانت تحت الاحتلال أم في مرمى الحصار...بسيادة أو من دونها...بمعابر مفتوحة تحت الحراسة الاسرائيلية أم بأنفاق فيها من البيزنيس أكثر ما تحتمله من معاني “دعم الصمود”...كلا “الفياضيتين” نجحتا في تخليق طبقة من أصحاب المصالح والطفيليين والانتهازيين، الذين لا مصلحة لهم في مصالحة، والمؤكد أنهم من أنصار تأبيد الانقسام وادامة الأمر الواقع ومنع انطلاق حركة وطنية تحريرية وتغييرية فلسطينية جديدة.
الارتهان للغرب، واستتباعاً للاتفاقيات المذلة مع اسرائيل، أبرز ما مَيز “ماضي فياضية رام الله”، وحاضرها...وهو ما يُميز “مستقبل” فياضية غزة” الذي يُطل برأسه من ثنايا الحاضر المُعاش، الأولى نشأت من رحم هذا الارتهان وما زالت تستمد منه نسغ حياتها، والثانية ترهن مستقبلها للغرب وتبدي استعداداً “لاحترام” الاتفاقيات المُذلة المبرمة” مع اسرائيل، وثمة سوابق “وطنية” دالة على هذا الاستعداد (الانتخابات على أساس أوسلو)، فضلاً السوابق” القومية” الممثلة في تجربة “اسلاميي” دول الربيع العربي الذين أرهقوا مسامعنا بكتب الضمانات والطمأنة والتطمين.
ما يميز “الفياضيتين” احداهما عن الأخرى..ليس سوى “شكل الخطاب” لا مضمونه، فلا فوارق برنامجية بينهما...هنا فَقَدَ الحديث عن “المشروع الوطني” جديته وجدواه...وهناك بات الحديث عن “خيار المقاومة” أكذوبة يجد أصحابها أنفسهم، صعوبة في تصديقها...كلتاهما تعبران عن فشل “المشروع الوطني الفلسطيني”...كلتاهما لا تؤذنان بخلاص قريب ولا تؤشران على طريقه، بعد أن تحولتا الى مشاريع سلطوية وأطراف في صراعٍ دائمٍ ونهمٍ على مكاسبها ومغانمها ...لقد باتتا عبئاً ثقيلاً على الشعب وقضيته الوطنية ومشروعه الكفاحي..لقد صارتا جزءاً من المشكلة لا جزءاً من الحل.
ثمة ما يجدر أن يقال في سياق الحديث عن “الفياضيتين”...الأولى باتت جزءاً من الماضي، وارهاصات سقوطها بدأت مع اندلاع شرارات الربيع العربي ووصول خيار “المفاوضات حياة” الى طريق مسدود..أما الثانية، فقد تجد في هبوب “الريح الاخوانية” في مصر وتونس وسوريا (ربما) ما قد يطيل في أمد بقائها قليلاً، بل ووراثة “الفياضية” الأولى في الضفة الغربية، وهنا ينفتح الباب من جديد حول أسئلة “الحل النهائي” للقضية الفلسطينية..الذي يراه البعض “حلاً اسلامياً”، ومن دون أن يقصد بالطبع “الاسلام الجهادي” و”الأرض الوقف” و”أكناف بيت المقدس” وحكاية “المسلم واليهودي والحجر “، بل “الاسلام الرائج في خطاب الحرب الباردة وتحالفاتها” التي يُعاد احياؤها من جديد.
( الدستور )