الدولة الوطنية القلقة: الوطنية والمواطنة

الدولة في العالم العربي بعد عصر الثورات والربيع العربي تولد من جديد، وتنتقل فيها حركة الصراع من الصيغة التقليدية؛ من الخارج إلى الداخل إلى علاقة الداخل بالداخل. الدولة الحائرة تُطبخ في هذا الوقت على نار غير هادئة، وبانتظارها مصير مجهول.
كان المسار المأمول للعالم العربي ينحو باتجاه الإحلال البطيء للشرعية العقلانية القانونية مكان الشرعية التقليدية. ثمة كرة من اللهب وليس من الثلج تتدحرج عبر الحدود العربية، تحتوي على أنماط من صراعات ونزاعات داخلية تعبر عن اختلالات متفاقمة في علاقات الداخل بالداخل، وتترك خلفها حرائق سياسية واقتصادية واجتماعية لا تكاد تخمد في مكان حتى تشتعل في مكان آخر.
الأزمة الصراعية تزداد عمقا تحت عناوين الديمقراطية هذه المرة. وكلما قيل إن الأوضاع تميل إلى التهدئة، تنفجر أحداث من نمط متكرر في مكان آخر، وكأن الحدود العربية العصية على الاختراق أمام البشر والأفكار وحتى السلع، أصبحت شفافة أمام ظاهرة الصراع على مستقبل الدولة الراهنة. فما يحدث اليوم، وما هو منتظر أكبر من نزاعات أهلية عابرة وأكثر من تمرد محلي، لا تشبه ما تخبرنا به كتب التاريخ عن معاناة التحولات الديمقراطية في العالم؛ فهل تشبه أوضاع العراق بعد عقد كامل من الاحتلال والتحول الديمقراطي أوضاع ألمانيا الغربية في نهاية الخمسينيات.
النزاعات المحلية السائدة في العالم العربي توضح أحد مسارات الصراعات القادمة، والمتوقع أن تدور حول عنوان عريض مفاده الصراع على مستقبل الدولة الوطنية؛ أي الصراع داخل المجتمع السياسي والمجتمعات الأهلية غير المندمجة في معظم أشكال الدول العربية السائدة، بينما سيكون محرك هذا النمط من الصراع عدم التفريق بين الدولة وسلطتها السياسية، كما هو حادث في لبنان اليوم وبصورة أخرى في السودان، أو النزاعات العاصفة والمفتوحة على كل الاحتمالات كما يحدث في اليمن.
فالأصل أن الدولة ثابتة ودائمة ولا تزول إذا لم تعصف بها حروب أهلية طاحنة أو احتلالات أجنبية، بينما سلطتها السياسية متغيرة تتداولها القوى والنخب الاجتماعية والسياسية عبر تنظيماتها المدنية. والمشكلة حينما تستوطن السلطة السياسية الدولة، وتحولها ملكاً لها بالاستبداد والإقصاء؛ حينها تغيب قيمة الدولة وأهميتها المصيرية، ويتحول الصراع في لحظة مظلمة من صراع حول مستقبل الدولة إلى صراع لهدم الدولة.
الشكل الآخر من صراعات الدولة الوطنية في العالم العربي سيدور حول محور فكرتي المواطنة والوطنية، وهذه قصة أخرى أكثر تعقيداً. ففي الوقت الذي تتآكل فيه أنماط الشرعية السياسية للنظم الحاكمة، والمستندة إلى تراث من هيبة القوة التي اهترأت على مدى عقود خلت من التجريب والترقيع، يبدو أننا أمام تحولات جذرية في مفهوم الشرعية السياسية ومصادرها، مستندة إلى موجة من العقلانية الجديدة، لم يستتب الأمر لها بعد في مجتمعات تتغير هياكلها الاجتماعية والاقتصادية بفعل عوامل داخلية وخارجية متداخلة، ولا يلمس أحد نتائج للتغير.
كان الحديث الدائر في أوساط النخب العربية يتناول أزمة الشرعية باعتبارها أحد أشكال التعبير عن الأزمة الثقافية الكبرى التي تعصف بالمجتمعات العربية. وكان المسار المأمول ينحو باتجاه الإحلال البطيء لما يسمى في التراث الديمقراطي بـ"الشرعية العقلانية القانونية" مكان الشرعية التقليدية التي أفرغت من كل مضامينها وتآكلت تماما مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي، نتيجة الاحتلالات والاقتتال الداخلي والخارجي، وانهيار ما تبقى من نظرية الأمن القومي العربي، والفشل المتوالي لمشاريع التنمية الوطنية. لكن الخطير فيما يحدث هو أن البنى التقليدية تتحلل، وأزمة الدولة التسلطية وفسادها يتفاقمان، لكن بدون أن يولد أي جديد. بالمعنى الاجتماعي؛ تولد الوطنية مرة أخرى لكن على يد قابلة بلدية.
( الغد )