الدولة الأمريكية مسؤولة عن قتل السفير ستيفنز
(إن السياسات الرسمية للولايات المتحدة التي ينتهجها الحزبان الرئيسيان اللذان يتبادلان الحكم فيها هي المسؤولة عن قتل السفير الأمريكي في بنغازي جون كريستوفر ستيفنز وعن العداء المتنامي لأمريكا بين العرب والمسلمين) إن الغضبة الشعبية العربية والإسلامية العارمة نصرة للنبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم وضعت الدول العربية المجندة طوعا أو كرها ضمن الاستراتيجية الإقليمية للولايات المتحدة في موقف حرج وجدت نفسها فيه مضطرة لتبرئة الدولة الأمريكية من الإساءة للدين الحنيف ورسوله، ووجدت في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ورئيسه الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي ناطقا باسمها، ليعمل "الاتحاد جاهدا لتهدئة غضب المسلمين في أنحاء العالم " كما جاء في بيان للاتحاد بتوقيعه يوم الخميس الماضي، أعقبه بتصريح قال فيه إن "الولايات المتحدة ليست مسؤولة كدولة عن الفيلم " الذي فجر الغضب الشعبي.
وكان سحب جماعة الإخوان المسلمين في مصر لدعوتها إلى التظاهر بعد صلاة يوم الجمعة الماضي وتأكيدها أنها "لن تنظم سوى تجمع رمزي في القاهرة "، ورسالة نائب مرشدها خيرت الشاطر التي نشرتها صحيفة النيويورك تايمز يوم الجمعة الماضي والتي برأ فيها "الحكومة الأمريكية أو مواطنيها " من "المسؤولية عن أعمال فئة قليلة أساءت إلى القوانين التي تحمي حرية التعبير "، امتدادا لجهود القرضاوي "لتهدئة غضب المسلمين " على أمل أن "تتجاوز هذه الأحداث ... العلاقات التي سعى الأمريكيون والمصريون لبنائها خلال الشهرين الماضيين " بعد تولي الرئيس محمد مرسي مقاليد الرئاسة المصرية، مع أن الرئيس باراك أوباما منح مصر ورئاستها مساحة واسعة للتجاوب مع نبض الشارع الوطني والعربي والإسلامي للخروج من الموقف الحرج الذي وضعه غضب المصريين فيه عندما قال في تعليق له على مضاعفات الأزمة الحالية على العلاقات مع مصر: "لا أعتقد أننا نعتبر المصريين بمثابة حلفاء، لكننا لا نعتبرهم أعداء "، لكن مرسي اعتبر دمشق، لا الولايات المتحدة، هي التي يجب أن تتجه بوصلة الغضب الشعبي إليها.
لقد وحدت نصرة النبي العربي العرب بمسلميهم ومسيحييهم، ووحدت المسلمين بسنتهم وشيعتهم، ووحدت المصريين مسلمين وأقباطا، ليتحدث الأزهر الشريف والكنيسة القبطية وكرسي الفاتيكان الرسولي والكنائس الشرقية بطوائفها كافة بلغة واحدة شاجبة ومستنكرة. لكن بوصلة الغضب التي اتجهت نحو واشنطن في وحدة إقليمية وشعبية تجاوزت الاستقطاب السياسي الإقليمي والعصبيات الدينية والطائفية فوجئت بمحاولة سافرة لحرف اتجاهها عندما حاول القرضاوي القفز عن الأزمة الراهنة في العلاقات العربية والإسلامية – الأمريكية الناجمة عن حملة صليبية غربية جديدة بالعودة إلى الحروب الصليبية التي حسمها العرب والمسلمون لصالحهم قبل حوالي ثمانية قرون من الزمن وإلى أزمة ساكنة في الحوار الإسلامي – المسيحي ليطالب بابا الفاتيكان الذي بدأ زيارته للبنان يوم الجمعة باعتذار، لا يجادل عربي أو مسلم بأنه اعتذار مستحق وواجب، عن الحروب الصليبية وعن مواقفه التي أوقفت الحوار، في وقت تزأر فيه جماهير المؤمنين المسلمين والمسيحيين مطالبة الولايات المتحدة بالاعتذار، في توقيت مريب يهدد تلك الوحدة النادرة في مواجهة الولايات المتحدة.
لكن ملايين العرب والمسلمين الذين خرجوا إلى الشوارع غاضبين محتجين ومعبرين عن قناعتهم بأن الدولة الأمريكية مسؤولة، ويطالبون بقطع العلاقات معها وإغلاق سفاراتها، لم يتركوا مجالا للشك في اختلافهم مع الاتحاد ورئيسه القرضاوي ومع "الإخوان " عندما استهدفوا الأعلام الأمريكية بالحرق والسفارات الأمريكية بالحصار الذي اتسع ليحاصر الحكومات العربية التي يعبر القرضاوي عن موقفها حصارا سياسيا زاد في حرجها عندما اضطرت للجوء إلى فتح نيران أسلحتها على الجماهير الساخطة حد القتل دفاعا عن التزامها بالأعراف الدولية لحماية البعثات الدبلوماسية الأمريكية التي تستضيفها، بل واضطرت إلى التنازل عن جزء من مسؤوليتها في حمايتها، في دليل دامغ على عجزها، لتغض النظر عن قيام حمايات السفارات الأمريكية بفتح النار على المحتجين للقتل أيضا، وغض النظر كذلك عن تدفق قوات من المارينز وفرق التحقيق الأمريكان على بعضها لحماية سفاراتهم ومواطنيهم (ليبيا واليمن وتونس بينما رفض السودان استقبالهم)، والسماح لطائرات مراقبة دون طيار لانتهاك سيادتها الجوية (ليبيا)، وعدم الاعتراض على انتهاك قطع بحرية أمريكية لسيادتها في مياهها الإقليمية (ليبيا أيضا)، مما يحمل الدولة الأمريكية المسؤولية أيضا عن الموقف الحرج والصعب الذي وضعت فيه حكومات عربية متحالفة معها أو "صديقة " لها.
فالملايين العربية والمسلمة الغاضبة لم تغب عنها ازدواجية المعايير الأمريكية التي تلاحق سياسيا ودبلوماسيا وقانونيا وماليا كل شاردة وواردة في الوطن العربي والعالم الإسلامي يشتم منها ما يصفه الخطاب الرسمي الأمريكي ب "معاداة السامية " أو "إنكار الهولوكوست " أو "إنكار وجود إسرائيل " أو "تهديد أمنها "، دون أدنى احترام لقوانين حرية التعبير الأمريكية، بينما يعلن هذا الخطاب، بلسانيه الديموقراطي والجمهوري على حد سواء، عجزه الكامل في مواجهة إساءة استخدام حرية التعبير في العداء للعرب والمسلمين. وازدواجية المعايير هذه هي سياسة رسمية للدولة الأمريكية.
ولم تغب عنها كذلك ازدواجية معايير الدولة "العلمانية " في واشنطن التي تحظر قوانينها حتى سؤال المرء عن ديانته بينما حولت وزارة خارجيتها تقريرها السنوي عن الحريات الدينية في العالم إلى أداة للضغط الدبلوماسي والسياسي على الدول تحرض الأقليات الدينية فيها عليها وعلى بعضها في سياسة خارجية رسمية للدولة الأمريكية تتناقض مع قوانينها في الداخل لكنها في ذات الوقت خلقت حاضنة ثقافية وبيئة موضوعية لتفريخ طفيليات سياسية من مزدوجي الجنسية تستخدمها واشنطن ضد أوطانهم الأم، مثل دعوة أقلية شاذة من الأقباط الأمريكيين إلى تفكيك مصر على أسس دينية.
واستبدال الشيوعية ب "الإسلام " كعدو للولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق سياسة رسمية لجزء هام من المؤسسة الحاكمة في الدولة الأمريكية، تغذيها جماعات الضغط الصهيونية واليهودية، ولم يكن استخدام الرئيس السابق جورج دبليو. بوش لعبارة "حملة صليبية " لوصف الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 "زلة لسان " كما فسرها مسؤولو إدارته، فقبل ذلك بحوالي عامين، في السادس عشر من مثل هذا الشهر، بعد أيام من هجمات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، أعلن بأن "هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب سوف تستغرق وقتا "، وحربه العالمية على "الإرهاب " انحصرت في الشرق الوسط ذي الأغلبية الإسلامية الساحقة، حيث "حان الوقت كي نفوز فوزا حاسما في هذه الحرب الأولى في القرن الحادي والعشرين "، لتتحول حربه هذه إلى حرب على العرب والمسلمين حصرا، لتكون أكثر من 24 منظمة من ستة وثلاثين منظمة صنفتها واشنطن إرهابية منظمات عربية ومسلمة أهمها مقاوم للاحتلال الأجنبي، وبخاصة الإسرائيلي في فلسطين وسوريا ولبنان والأمريكي في العراق.
أواخر تموز / يوليو الماضي أهان المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية الشعب الفلسطيني عندما قال في القدس المحتلة إن تخلفهم الاقتصادي ناتج عن تخلفهم الثقافي، ومثل بوش لم تكن تلك "زلة لسان "، فقد سبق له أن كررها في كتابه "لا اعتذار "، وغابت عنه حقيقة أن "الثقافة " العربية الإسلامية للشعب الفلسطيني هي ذاتها ثقافة العرب والمسلمين، وبالتالي كانت إهانته موجهة للعرب والمسلمين بعامة وللعروبة والإسلام كهوية لهم. أما إضافة الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي إلى البرنامج الانتخابي لباراك أوباما الديموقراطي فإنها كانت إهانة مماثلة كون القدس تقع ليس فقط في قلب الثقافة العربية الإسلامية بل في صلب الايمان الديني للمسلمين عربا وغير عرب. وإذا لم تكن هذه سياسات معلنة للدولة الأمريكية فإنها سياسة مرشحين لرئاستها ينتظرون الظروف المناسبة لترجمتها إلى سياسة رسمية لها.
إن السياسات الرسمية للولايات المتحدة التي ينتهجها الحزبان الرئيسيان اللذان يتبادلان الحكم فيها والتي أقنعت الأمريكيين يأن "مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل متطابقة " والتي جعلت الولايات المتحدة دائما "مستعدة لتنحية أمنها الخاص وأمن كثير من حلفائها جانبا من أجل خدمة مصالح دولة أخرى " هي دولة الاحتلال الإسرائيلي، كما جاء في دراسة عن جماعات الضغط الصهيونية واليهودية الأمريكية للأستاذين في جامعة شيكاغو جون ميرشايمر وفي جامعة هارفارد ستيفن والت، قد خلقت حالة عداء للإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة تسمح للمتطرفين باستغلالها للإساءة إليهم كما خلقت في المقابل حالة عداء لأمريكا بين العرب والمسلمين تحول إلى حاضنة تستغلها الجماعات المتطرفة منهم لارتكاب ردود فعل عليها، مثل قتل السفير الأمريكي في بنغازي جون كريستوفر ستيفنز، كان العرب والمسلمين يرفضونها ولم يرتكبوا مثلها عندما كانت خلافتهم هي القوة العظمى في العالم وعندما كانت إهانة نبيهم ودينهم تصدر في كتب أهم كثيرا من فيلم هامشي مثل "براءة المسلمين ".
وهذه وغيرها هي سياسات رسمية للدولة الأمريكية خلقت حاضنة موضوعية كانت ستفرخ إن عاجلا أو آجلا ظواهر في الولايات المتحدة مثل حرق القرآن الكريم، والقس تيري جونز، وفيلم "براءة المسلمين "، وظواهر في الوطن العربي والعالم الإسلامي مثل قتل السفير ستيفنز، وهي ظواهر هامشية سوف تتنامى وتستفحل لتفجر المزيد من التوتر والأزمات في العلاقات العربية والإسلامية – الأمريكية طالما لم تتغير السياسات الرسمية للدولة الأمريكية تجاه العرب والمسلمين.