لو أن الفتى حجل !!!

استوقفني خبر قد يكون أقرب الى المهتمين بمجلة الناشونال جيوغرافي، أو علم الاحياء هو عبور نصف مليون طائر سماء فلسطين هذا الموسم من الهجرة. ولم تكن تلك الطيور تحمل جوازات سفر أو بطاقات ملونة، ولم تستوقفها الحواجز الاسرائيلية كي تموت منها الحوامل وهي تحتضن فراخاً فقست للتو من بيضها، ولم يمت أحدها بالسكتة القلبية أو بالضغط أو بنوبة سكر لأن التجول ممنوع في الفضاء، لقد عبرت كلها ولم تفتش اسرائيل ما تحمله تحت آباطها أو ما تطلقه من أصوات، وقد يقول الواقعيون جداً والأقرب الى الزواحف في واقعيتهم أن تلك الطيور عبرت من الفضاء، وهم كعادتهم ينسون أو يتناسون ما قاله ذلك الفلاح الفلسطيني العجوز والطاعن في فلسطينيته عندما طلب منه أن يبيع دونماً واحداً من أرضه، فقد قال ان مساحة هذا الدونم ليست ألف متر مربع أو حتى مليوناً، انها تمتد من الارض الى أعلى نقطة في السماء، فمن يملك هذا الدونم يملك ما فوقه من هواء وما في جوفه حتى آخر نقطة في باطن الأرض.
ان هناك اساليب عديدة لاصطياد اسراب الطيور المهاجرة، نذكر منها للمثال فقط طائر السّمان الذي تنصب له الشباك وهي مغطاة بالعشب على السواحل فيهبط عليها ليستريح من عناء الهجرة الشاقة ثم يكتشف بعد فوات الأوان ان ما سقط عليه ليس سهولاً مغطاة بالعشب، بل كمائن وأغرب ما في هذا الصيد الذي عبر عنه نجيب محفوظ رمزياً وسياسياً في روايته السّمان والخريف ان الطعم الذي يُصطاد منه هو تعبه ولا شيء آخر.
انه خبر علمي يخص الناشونال جيوغرافي أو راصدي هجرات الطيور، لكن الفلسطيني عندما يقرأه يتساقط من عينيه الدمع، لأن الله خلقه انساناً وليس طائراً، فالطائر لا يعاقب على غنائه حتى لو كان مقاومة، لأنه غير مفهوم ولا تفرض عليه الاقامة الجبرية في أعشاشه كما فرضت على شعراء وناشطين في فلسطين، لهذا فان ما قاله شاعرنا العربي تميم بن مقبل وهو ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر، يغيره ملايين اللاجئين الى ما أطيب العيش لو أن الفتى حجل، فالحجل طائر يحب الأعالي، لكن نقطة ضعفه التي يصطاد منها ليست تعب خواصره وأجنحته كما هو الحال بالنسبة للسّمان، انه شغفه بالالوان الحادة والفاقعة فما ان يراها حتى ينقض عليها ثم يكتشف ايضاً بعد فوات الأوان انها كمين أو فخ!
نعرف ان اسرائيل عاقبت البطيخ ذات انتفاضة لأنه يحمل الوان العلم، ثم عاقبت الدجاج لان المحاصرين في ساعات منع التجول حولوه الى دجاج زاجل يحمل رسائلهم من بيت الى بيت عبر أسطح المنازل، وهي الآن تعاقب المرأة الفلسطينية لان معدل انجابها اضعاف معدل انجاب اليهودية وآخر ما نشر هو ضيق اسرائيلي بارضاع الأمهات الفلسطينيات وبنسبة تزيد عن ثمانين بالمئة لاطفالهن من صدورهن. ذلك لأن الحليب كله قابل للغش الا هذا الحليب الذي يفرزه الدّم واحياناً يضخه الدمع.
نصف مليون طائر عبرت البحر والبر بسلام ومنها ما استراح في الخليل ومنها ما باض على قمة الكرمل في الجليل، فما أطيب العيش لو ان الفتى حجل وليس حجراً!
( الدستور )