هل الثروات هي التي تصوغ أمجاد الشعوب أم إرادة الرجال ؟؟
هذا السؤال الغريب ، مرّ ببالي كسحابة غادرت سمائي للتوّ ، حينما استعرت من خلوتي دقائق للتفكير بواقعنا العربي الذي يسير بخطى متعثرة ، ومع أن خلوتي لم تكن دائما ممتعة ، رحت أتصفح هذا التاريخ مرحلة تلو مرحلة ..سؤال وضعني على المحكِّ ، ولم أجد بدا من أن أعرض للقارئ العربي الكريم عما دار بتصوري عن خفايا هذا الواقع المؤلم ، ومدى إسهامه في تأخر الشعوب العربية ، مقارنة بغيرها من الأمم والشعوب التي لا تطاولها ثراء ، ولا توازيها عددا ولا إمكانيات ، غير أنها شعوب كانت قد خرجت من حروب طاحنة ، أودت بحياة الملايين منهم في ساح الوغى ، فما تبقى من هذه الشعوب في أعقاب تلك الحروب ، خرجوا وقد امتلأت قلوبهم حيوية ونشاطا ، ورغبة في بناء البلاد ، وإخراجها من براثن الفقر ، إلى جنات النعيم ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، دول شرق آسيا .. مثل اليابان التي خاضت حربا ضروس مع الولايات المتحدة الأمريكية .. وكوريا أيضا صاحبة الحظ السيئ التي هي الأخرى خاضت حربا ضروس مع الولايات المتحدة الأمريكية قسمت على إثرها إلى دولتين متناحرتين على مر أكثر من ستة عقود مضت.. والصين التي خاضت حربا مع نفسها ، فانقسمت إلى دولتين متضادتين ، قد تقتتلا في أية لحظة .
وكل تلك الدول كانت قد قاتلت ببسالة وشجاعة منقطعة النظير، ولم يشهد التاريخ مثلها ، لأنها كانت تواجه دولة عظمى متقدمة في كل شيء في التكتيك والسلاح ، وهي تواجه كل ذلك بإمكانيات بدائية لم يعتدّ بها ، إذا ما قورنت بآلة الحرب الأمريكية ..
لكنا إن أمعنا النظر بالمستوى الحضاري التي وصلت إليه تلك الدول المهزومة والخارجة من حربها المدمرة التي خاضتها مع أمريكا ، في مجالات شتى ، سواء في المجالات الصناعية أو الزراعية أو التكنولوجيا ، نجدها قد استطاعت أن تصل إلى أوج حضارتها في زمن قياسي قصير ، وهو ما لم تستطع تحقيقه كثير من الدول العربية الثرية التي لم يسبق لها أن خاضت حربا حقيقية واحدة في حياتها سوى تلك الحروب الشكلية التي مهدت لها دول الغرب هنا في الشرق الأوسط ، لتعزز من وجود دولة إسرائيل على أرض فلسطين العربية ، إننا نكاد أن نفقد صوابنا ونحن نرى هذا التواطؤ الشديد الذي يفرضه الحكام العرب على شعوبهم ، ضد أي تقدم أو تحضر أو ازدهار .. ولذلك.. فهم اعتادوا أو هم عمدوا إلى أن يجعلوا شعوبهم تمارس حياة بدائية، أو أن تبقى على الهامش أو ربما تعاملوا مع شعوبهم بمستوى أقل مما يتعامل به رعاة الأبقار مع أبقارهم في المزارع الكبيرة التي نراها في الأفلام..
ولم نستغرب ذل الشعوب وخنوعهم تحت طائلة سطوة وسياط الحكام ، وهم يجترون آلامهم ، صباح مساء في شبه مزارع لا يتوفر بها لا ماء ولا كلأ .. ومع ذلك فهم فضلوا الحياة على الهامش على أن تطالهم سياط الظلمة واستبداد الحكام الظالمين .
وحينما نرى الصناعات التي تردنا من دول شرق آسيا الخارجة من الحروب ، يأخذنا العجب فيما نرى من تميز تلك الصناعات ، وربما فاقت صناعات الغرب الذي كون من نفسه أسطورة مخيفة ، تخيف كل دول العالم الثالث ، حتى صرنا نرى أمريكا وهي تداعب تلك الدول أحيانا أو تغازلها أحيانا أخرى ، لتفرض عليها نوعا من التوازن بين الصناعتين الشرق آسيوية ، والأمريكية بشكل خاص ، والأوروبية بشكل عام .
ومع ذلك .. فنحن نوقن بأن دول شرق آسيا ، قد تطورت وتقدمت في كل مناحي الحياة ، صناعيا وزراعيا وتكنولوجيا وعسكريا ، لدرجة أخافت أمريكا والغرب بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة ..
ولعلنا أدركنا بجد ما وصلت إليه من مستوى صناعي راق ، أمثال تلك الدول التي خرجت من حروبها منهكة ، بعد أن دُمر اقتصادها كلية ، وهُدمت بعض مدنها بالكامل ، كما حصل في مدينتي هيروشيما .. وناجازاكي اللتين دمرتا بالكامل عن بكرة أبيها ، ولم يتبق فيهما أي كائن حي لا من الإنسان ولا من
الحيوان ولا من النبات ، نتيجة قصفهما بقنبلتين نوويتين من قبل أمريكا، إلا أن اليابان كما أسلفت خرجت من تلك الحرب منتصرة انتصارا غريبا ومن نوع آخر ، حيث خرج أبناؤها منتصرين على إرادتهم ، فاتجهوا إلى الصناعات بمختلف أنواعها ، لدرجة أنها استطاعت اكتساح أسواق الغرب بصناعاتها ، واجتاحت كل الأسواق العالمية ، فكانت صناعة لها امتيازاتها وخاصيتها من حيث الجودة والإتقان ، ومع ذلك فإن كثيرا من دول شرق آسيا الأخرى لم تقلّ عن اليابان شأنا .. مثل الكوريتين ، وماليزيا ، والصين وتايوان وهونكونغ ، وربما دول أخرى لا تحضرني وخاصة في دول البلقان .
إذن .. فكما أسلفت فإننا نرى بأن إرادة الرجال هي التي تصوغ أمجاد وتاريخ الشعوب ، فالثروات التي تقدر بمليارات المليارات .. وقد غصت بها بنوك الغرب ومصارفهم ، حتى أن بنوك الغرب كلها بالإضافة إلى بنوك الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت مصارفها تعتمد بالكلية على مدخرات الأثرياء العرب من الأموال والمجوهرات ، لدرجة أنهم استغلوا فوائد تلك الأموال التي تجنيها سنويا ، لتشغيل مئات الآلاف من المؤسسات والمصانع والمصارف الاقتصادية ، ومع ذلك فإن تلك المليارات على كثرتها لم نرها قد صاغت للعرب لا مجدا ولا تاريخا ..ولم تُستغل في عالمنا العربي على الوجه الذي يرضينا عن أنفسنا ، ولا يرضينا عن أولئك الحكام ،الذين ما زالوا يتمادون بإذلال الشعوب وقهرهم ، وإسكاتهم أحيانا بالحديد والنار ..
وبالرغم مما شاهدوه من نتائج وخيمة على حكام قبلهم ، تركوا المناصب والكراسي والمليارات في مخابئها ، وغادروا الحياة السياسية وأصبحوا وقد باءوا بغضب من الله وغضب من الناس ، وحقد من شعوبهم التي ما ذاقت في عهدهم سوى معاناة الفقر والذل والهوان .. ويا ليت أن ما تبقى من هؤلاء الحكام أن يرعووا ويفيئوا إلى أمر الله ، ويستعيدوا ولو جزءا يسيرا من ملياراتهم لبناء صرح اقتصادي شامخ ، تكون فائدته أولا وآخرا لمنفعة الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج ، وبهذه الطريقة يمكن إنعاش الاقتصاد العربي المترهل من الضياع ، وإنقاذ الشعوب المقهورة الفقيرة المتخلفة من براثن الفقر والتخلف.. وبذلك يموت الزعيم أو الحاكم العربي الذي لا يوقن بالموت إلا بعد أن يسجى في أعظم مستشفيات الغرب يستجدي بها عمرا جديدا ، وحياة تبعث في جسده من جديد ، وهيهات .. هيهات أن يحوز على يوم واحد زيادة عن حياته المحددة بالساعة.. قال تعالى : وإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون .
أيها الحكام العرب .. يا زعماء البترول والنفط وخيرات الأرض.. أنتم لن تصطحبوا معكم شيئا إلى الآخرة ولو دولارا واحدا، حتى الخاتم البسيط الذي ترتدونه سيخلع من أصابعكم ولو كان من فضة لا يساوي دولارا واحدا..
أيها الحكام.. أقيموا العدل بالقسط، وانشدوا الأمن والأمان والازدهار لشعوبكم، وعليكم أن تفكروا جيدا لإنقاذ شعوبكم.. واستنهضوا الحياة في اقتصادكم .. ولا تلْقوا وجه الله وأنتم تخشون منه عقابا أو تُلقى أجسادكم في النار.. أقيموا المصانع .. والمزارع وشيدوا المدارس والجامعات.. وابنوا المستشفيات المتخصصة لمعالجة المرضى والمكلومين ، ووفروا الكثير من الكوادر الطبية المدربة والمؤهلة ، لمقاومة الأمراض المعدية والمستعصية والانتصار عليها والحد من أخطارها ، وحاربوا كل أسبابها .. وحسنوا مستوى الغذاء والدواء في بلدانكم .
أيها الحكام .. لما لم تنتهوا عن الإمعان في احتقار الشعوب وقهرهم وإذلالهم ؟ .. ولماذا لا تسعون إلى صياغة حضارة الشعوب ومجد الأمة حتى الآن ؟ لماذا لم توفروا لهم الرخاء في المعيشة، ليتعرفوا عليكم عند الشدة والملمات، لما لم تصنعوا لشعوبكم مستقبلا مشرقا .. ولما لم تسبقوا غيركم بعمل الخير لتتبوأوا بعملكم هذا مكانة علية بين زعماء الأرض ، ليعرفوا من خلالكم عظمة الإسلام ؟ من للحكام غيرَ الشعوب الحرة لتقف إلى جانبهم ؟، إذا ألمت بهم الشدائد والملمات ، من يقف إلى جانب الحكام بعد الله؟ .. أتعتمدون على الغرب ليحمي عروشكم ، وأنتم قد رأيتم بأم أعينكم الأمثلة والوقائع التي ألمت بغيركم من الحكام وهم يسقطون تباعا .. أما رأيتم بعد حقيقة الغرب بالعين المجردة ، أليس لكم من التجارب الحية خير برهان ؟، ألم تتيقنوا من غدرهم وهم يتخلون عن الأصنام التي صنعت على أعينهم ، لقد رفعوهم إلى أعالي السماء ،
فكانت السقطة من علٍ بعدها قاتلة ، ومع ذلك لم يكترثوا أبدا بسقوط أولئك الطواغيت والأصنام المنحوتة بآلة الأمريكان ، لأن ما يهمهم هو كيفية الإفادة من السقوط .. ألم تذكروا قول وزير خارجية أمريكا عندما سقط الشاه في إيران وهو ربيب أمريكا ماذا قال حينما سئل عن النتيجة المحتملة لسقوطه ؟ قال : نحن لا يهمنا سقوط الشاه ، ولكن الذي يهمنا بالمطلق ، هو كيف لنا أن نستفيد من سقوط الشاه !!
أيها الحكام .. لا تجعلوا أصابعكم في آذانكم ، ولا تلوُّوا رؤوسكم ، واعملوا على إسعاد شعوبكم لتصبح مجتمعاتٍ قادرةٍ على العطاء، فحينما تنتصرُ الشعوبُ على الإرادة، تعلوا بجهودهم الأمة، وتتقدم بأفعالهم الدولة، وتزدان بهم الحياة .. أمدوهم بالحرية والإمكانيات بكل أشكالها، وشجعوهم على تجاوز أنماط الذل والانبطاح والتخلف الذي نشأوا واعتادوا عليه.. وليكن عملكم هذا كله خالصا لوجه الله ، وتحقيق للعدل والأمانة التي اؤتمنتم عليها فلعلها كانت في ميزان حسناتكم في الآخرة والأولى .. حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا... والله من وراء القصد ...