السياسة بين المستحيل والممكن
السياسة بطبيعتها متحركة متغيرة، ليس فيها أصدقاء دائمون ولا مصالح دائمة، والعلاقات تتغير وكذلك الظروف، مع قابلية المناخ أيضاً للتغير والتلبد، والسياسي الماهر الذي يتحرك في المناخ الملائم في الوضع المناسب، فإذا ضاعت منه الفرصة قد لا تعود، وإذا أحسن استغلالها في الوقت المناسب ينجح عندها في تغييرالواقع، إلا أنه لا بد له مِن معرفة نهاية المدى لإمكاناته وتحركاته والظروف حتى لا يفشل، فالقدرة على خلق الواقع في إطار التعامل مع الممكن والمستحيل عملية غاية في التعقيد، وتعتمد على معرفة كاملة بتفاصيل الأوضاع، مع وضع بدائل وخيارات لكل الظروف الطارئة. وفي هذا فإن ابن خلدون برؤيته الثاقبة المستندة إلى وعي تاريخي عميق وتجربة سياسية مديدة، لم يتردد في ذم المغامرين السياسيين، ممن يستسهلون حمل مثاليات حالمة مِن دون مراعاة سنن الاجتماع وقوانين الغلبة، بل أكثر مِن ذلك لم يتردد في الدعوة إلى إنزال أشد أنواع العقوبة بهؤلاء المغامرين، لما يحلّونه مِن كوارث بأنفسهم وبغيرهم، ثم لجلبهم مفاسد أشد مِن المفاسد التي نهضوا لمقارعتها.
هؤلاء المغامرون ينتهجون سياسة "فن المستحيل في الزمن المستحيل "، وهي نقيض لـ "السياسة فن الممكن "، فسياسة فن المستحيل في الزمن المستحيل تعني تجاهل حقائق الوضع الكائن تمسكا بأحلام وهمية وشعارات أيدولوجية مستحيلة التطبيق، والسياسي مِن هذا النوع قد يُحارب المستحيل فعلاً فيفقد كل شيء. أما قاعدة "السياسة فن الممكن " فيحتاج المرء هنا إلى مِن التوقف عندها، فإنها على اختصارها وكثافتها تمثل قاعدة ذهبية يتوجب أن يأخذ بها كل مَن يتعاطى السياسة، شريطة أن يُحسن فهمها بعمق، وبعيداً عن التشويه والاختزال، وتعني أنها في جوهرها تحويل الممكن إلى نوع مِن أنواع فن التفكير، أي توسيع آفاق الواقع، والسعي الدؤوب إلى إعادة تشكيله والارتقاء به، وفق حساب دقيق لما هو متوفر مِن إمكانيات محتمل تحصيلها ضمن شروط سياسية معينة، وبلغة أخرى فإن السياسة هي فن تجسير الهوة الفاصلة بين الموجود والمطلوب، وبين الواقعي والخيالي، والسياسي الذي لا يعمل على عبور هذه الهوة، أو في الحد الأدنى التقليص منها، هو سياسي فاشل بامتياز، لأنه بكل بساطة فاقد للبصيرة أو هو في أحسن الحالات لا يحمل رؤية أو خيالاً استراتيجياً. والواقعية السياسية بهذا المعنى ليست القبول السلبي لكل ما يعرضه الآخرون، بل هي النظر المتبصر في الإمكانيات التي يختزنها الواقع خلف ما يطفو على السطح الخارجي باتجاه فتح دروب نحو الممكن المطلوب، مع ضرورة الإنتباه إلى أن هذا المطلوب لا يُبنى على الرغبات أو الأوهام، بقدر ما يُبنى على حُسن قراءة الواقع وتوازناته العميقة، مصحوباً بسعة الخيال وقوة التصميم والإرادة.
في الأردن كثيراً ما تتداخل الأمور وتلتبس الخيارات على المتعاطين بالشأن السياسي، وخاصة في المنعطفات، وهذا ما يستدعي تمحيص الأمور بوعي وبصيرة وبسعة خيال بعيداً عن آفة الإذعان والإنصياع لتعليمات رسمية مِن جهة، وآفة التهور والمغامرات الطائشة القائمة على رغبات أيدولوجية مِن جهة أخرى. فالفعل السياسي الذي يخرج عن نطاق السائد والمألوف بالخيال، هو ضرب مِن ضروب التخرصات والأوهام.
جملة القول ومعناه.. إن مَن يتأمل الوضع يتيقن أنه وبالرغم مِن محاولات ممن فاق مستوى الإحباط لديهم مستوى الأمل، ورغم كل الصعوبات الجمة التي يحاول أهل "الغباء الجماعي " وضعها في طريق الإصلاح المنشود عبر كل أشكال الإعاقة والعرقلة، محاولة منهم الإبقاء على مصالحهم الخاصة، فإن كل المؤشرات تدل على أن الناس الطيبين الذين يريدون تحقيق المصلحة العامة لديهم همة ويمتلكون عزيمة أقوى مِن كل العراقيل، والأردنيون قادرون بإذن الله على تحطيمها.