عن التطاول على «الشـرعية الفلسطينية»؟!

حتى أشهر قليلة خلت، كانت ايران المتهم الوحيد بمحاولة ضرب “الشرعية الفلسطينية” وشطرها الى نصفين...ولقد اتخذت القيادة الفلسطينية سلسلة من المواقف التي تندد بالسلوك الايراني، وتحمله شطراً لا بأس به من المسؤولية عن الانقسام و”ادامته”...وآخر جولات المواجهة بين طهران ورام الله، وقعت عشية قمة دول عدم الانحياز الأخيرة في طهران، حيث تردد أن القيادة الايرانية وجهت “دعوتين” للفلسطينيين للمشاركة في المؤتمر: واحدة للرئيس عباس وثانية لرئيس الحكومة المقالة في غزة....عباس رفض الأمر، والناطقون باسمه هددوا بامتناعه عن المشاركة في المؤتمر ان حضر اسماعيل هنية...ايران قطعت الجدل بحصر الدعوة ب”أبو مازن”...هنية الذي كان أعلن أنه سيشد الرحال الى طهران عاد واعتذر، مرجعاً ذلك لحرص على عدم تعميق الانقسام وتحفظاً على الموقف الايراني من الأزمة السورية....وبقية القصة معروف.
قبل أيام، تحدثت وسائل الاعلام عن دعوة مصرية لاسماعيل هنية لزيارة القاهرة،وبصفته رئيساً للحكومة الفلسطينية، السلطة اعترضت واستدعت سفير مصر في رام الله للاحتجاج...فيما “مصر – الدولة” ما زالت تؤكد اعترافها بـ”الممثل الشرعي الوحيد” أما “مصر – الاخوان” فتتحدث بخطابين، ظاهر ومضمر، موقعها الرسمي يملي عليها عدم التورط في تكريس انقسام الشرعية الفلسطينية، بيد أن عواطفها وقلبها مع حماس، حركة وحكومة.
قطر فعلت شيئاً مماثلاً...هي تعترف بالمنظمة والسلطة والرئاسة...لكنها تستضيف خالد مشعل ورفاقه من جهة، وتتعامل مع قطاع غزة كـ”ولاية مستقلة” تديرها حماس، وتوقع مع “حكومتها” اتفاقات اعادة الاعمار، ترسل الوفود وتستقبلها، من دون اخطار رام الله أو التشاور معها.
قيل أن المنحى الجديد في تعاملات قطر ومصر مع حماس والقطاع، أثار قلق السلطة واهتياجها، حتى أنها أرسلت وفداً رفيعاً للسعودية لطلب تدخلها لوقف هذا “التدهور” في علاقاتها مع بعض “الدول الشقيقة”، مصادر فلسطينية نفت كثيرا من هذه التفاصيل، بيد أنها لم تنف جوهر الحكاية، وهي هنا أن الشعب الفلسطيني واقعياً، بات يمتلك عنوانين لا عنواناً واحداً أوحدا.
من حيث المبدأ، لا أحد يجادل في وجوب حفظ أحد أهم منجزات الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة: وحدانية وشرعية التمثيل الفلسطيني في اطار منظمة التحرير...هذه المنجز دفع الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية أثماناً باهظة لانتزاعه وحفظه، وأحياناً بمواجهات مكلفة مع من حالوا منازعة المنظمة على الأرض والتمثيل واستقلالية القرار الوطني.
لكن من حيث المبدأ، لا بد من الاقرار بان سؤال الشرعية، بات يطارد مختلف القيادات والمؤسسات الفلسطينية...اذ لا يوجد مؤسسة فلسطينية واحدة أو قيادي واحد، يستطيع أن يزعم بأن يمتلك خاتم الشرعية وختمها...الجميع اندرجوا ومنذ زمن، في سياقات “تصريف الأعمال” و”الأمر الواقع” و”القديم على قدمه”...الرئاسة انتهت ولايتها...المجلس التشريعي المنتخب انتهت ولايته...حكومة غزة مقالة..أما تاريخ البشرية فلا يعرف حكومة بقيت “تصرف الأعمال كل هذه السنوات....أما عن المجلس الوطني واللجنة التنفيذية وما بينهما وما يتبعهما من مجالس ومنظمات، فلك أن تقول ما شئت.
ومن حيث المبدأ أيضاً، وبصرف النظر عن النوايا “الخبيئة” بل و”الخبيثة” لمنتهكي الشرعية الفلسطينية والمتطاولين عليها، فان المُلام عن فتح هذه الثغرة في جدران الشرعية الفلسطينية، هي القيادة الفلسطينية أولاً، وقبل أي أحدٍ آخر...فقد مرت سنوات ثمينة من دون أن تنجح في اعادة بناء وهيكلة المنظمة، بحماس أو من دونها...مرت سنوات ولعبة الحوار والمصالحة تراوح مكانها...وهنا ليس المهم تبادل اللائمة والاتهامات بين فريقي الانقسام...المهم أنه ترتب على هذا التعطيل، تشريع أبواب البيت الفلسطيني لكل أشكال التدخل والتطاول.
قد تكون حماس، غزة على وجه التحديد، مسؤولة كلياً أو جزئياً عن الفصل الأخير في مسيرة الفشل الفلسطيني في استعادة الحوار واسترداد الوحدة...ولكن هذه المسؤولية سبق لفتح والسلطة والمنظمة والرئاسة، أن تحملتها في مراحل سابقة، زمن انتعاش الأوهام وتفشي الرهانات الخائبة على خيار “المفاوضات حياة”.
وسيظل الحال على هذا المنوال، وستتكاثر الجهات والأطراف والأجندات التي ستعمل على تعميق الانقسام الفلسطيني وتكريسه، طالما ظل الانقسام قائماً...بل أن الأشهر الأخيرة، شهدت دخول الأطراف العربية والاقليمية ذاتها، على خطوط الانقسامات داخل حماس ذاتها، بدعم هذا الطرف وترجيح ذاك، عبر أدوات ووسائل شتى، تتقدمها وجهة الدعم المالي وهوية “المستفيد الأخير” منه، فضلا عن أدوار مرجعية، دينية وسياسية شديدة الارتباط بهذه العاصمة أو تلك.
من يقبل بتشظية الشعب والوطن والمؤسسات والشرعيات الفلسطينية، عليه أن يتوقع من الآن، بأن لا قعر ولا مستقر لعملية التشظي، وأنه وحزبه وفصيله وسلطته وحكومته ورئاسته، ستكون مرشحة لدور: الضحية التالية، ومن يعش رجباً يرى عجبا.
( الدستور )