محمد المستريحي يكتب : الكلام كثير ولكن في فمي ماء
المدينة نيوز - خاص - كتب محمد المستريحي : - ليس رغبة في تقليب المواجع، لكن مِن منطلق لا يصح إلا الصحيح، سأعتبر أن الكتابة في هذا الوطن باتت وسيلة للتنفيس عندما نشعر بالاختناق، وربما الكتابة الخالية مِن الحشو والزائد تكون أفضل، واللغة مقتصدة حاملة لدلالاتها دون بلاغة مفرطة.
المرحلة تتسم بالهبوط والإنحدار، والوطن تَحوّل إلى كعكةٍ يتقاسمها مَن تقمصوا الانتماء والولاء، وكل محاولة للإصلاح تم إغراقها في بحر الفساد المتلاطم الذين مَسّ كل شيء بلا استثناء، حتى وصل إلى إفساد الحلم بالإصلاح.. أي خيط قبيح تحيكه الدولة وأجهزتها في نسيج الوطن؟!.
أنْ تحبَّ إنساناً ولا تخبره بما ينفعه فتلك مصيبة، وأنْ تحب أحداً ثمَّ تصارحه فيغضب منك أو يسئ الظَّنَّ بك فتلكم مصيبة أخرى، فإذا سكتَّ آلمتك نفسك، وهكذا في مطاردة دائمة بين الإقدام أو الإحجام.. والاردن، وطنٌ ليس كالأوطان، فلا يتقدَّمه عندنا إلاَّ الدِّين الحنيف، ولا تثريب علينا إنْ خشينا عليه ورغبنا في وضع آمن سلس جاهز لأي مفاجأة.، ويوم كتبنا لم نكتب بحبر القلم بل بدماء القلوب، وطلبنا أن لا يحمّلنا أحد وزر النوايا، لكنهم أصروا أن نكون عدداً من تعداد "القطيع ".. لذا لذْنا بالغياب، فهو أقوى معاني الحضور، وصنّا قلمنا عندما عَلت أصوات المنافقين، عملاً بحكمة أجدادنا "لا تُطعم طعامك مَن لا يشتهيه ".
قد نحتاج أحياناً للخلوة الذهنية؛ لنعطي لفكرنا فرصة استعادة نشاطه، أو نسعى في عزلتنا لغربلة أوراقنا القديمة، والبحث في ثناياها عن كوة ضوء تُعيدنا، وتثنينا عن قرار العزلة التي اخترناها بإرادتنا؛ لأسباب ذات قيمة تستحق شجاعة القرار في وقت أصبح الصدق فيه يؤدي بصاحبه إلى درب المخاطر، وكأنه عَبَرَ طريقاً مليئاً بخفافيش تجهل مكان خروجها، ولا تستطيع التنبؤ بحجم أعدادها، وسلاحك لا يجدي نفعاً معها، وكلما ازداد وهج سلاحك تكاثرت حولك، أمام هذا الواقع شعرنا بالاختناق وازدادت حاجتنا لتنفس هواء نقي في بيئة صحية، فكان الغياب الذي يمنحنا صفاء النفس وهدوءها قبل أن ينجح هؤلاء في تلوينها بالسواد كما ملئت نفوسهم وعقولهم معاً.
في الغياب تتسع خارطة التأمل، ويمنحك بُعداً شفافاً عن كل ما يجري، فتتابع وتتأمل بصمت، ثم تختزن ذاكرتك ما وصلت إليه من نتائج، قد تبتسم لبعضها، وتحزن كثيراً على بعضها الآخر، وتقرأ المشهد وتسأل نفسك كثيراً: هل يستحق عناء التأمل في أحداثه، أم أنك تتابعه فقط لأنك تشفق عليه مما فعله به أبناؤه بالتبني؟، وأثناء بحثك عن الإجابة تكتشف ما بين السطور، ثم ترسم في نهايتها علامات استفهام وأحيانا كثيرة علامات تعجب، وتتردد أحيانا أخرى في بدء سطر جديد؛ خشية أن تصدمك علامات أخرى تشبه ما قبلها وتختلف لاحقاً مع أفق توقعاتك.
في الغياب وحده تأتيك طوعاً فرصة مراجعة المنجز، وستذهلك حتماً النتيجة التي تؤكد لك أن الزمن قد توقف على أعتاب ماضٍ نُفاخر به، ولم يتغير شيء سوى أننا لم نعد قادرين على النقد والمواجهة، أو البناء والتجدد، فأنّى ذهبت لن تجد إلا بقايا أصوات قد بُحت مِن هتاف كاذب، أو أيدٍ تورمت مِن تصفيق منافق، وذوات متضخمة عجزت عن سماع الحقيقة حتى أصابها الصمم، وصمتت عن الجهر بالحق حتى شُلّ لسانها، وصدق وصف الله فيهم "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ".
للغياب لذة لن يشعر بها إلا مَن ضاق بالنفاق، ومَن جرّب صداقة المتلونين حتى كشفت له الأيام أنّ "خير الأصدقاء مَن لا يتلوّن إذا تغير الآخرون "، ومَن كتب بقلم صدق يريد به منفعة فكانت مكافأة صدقه كسر قلمه.. ولا ننسى أحبة أعزاء أسعفونا "نقداً "، وهؤلاء أوجعونا شهامة ونخوة.. غير ذلك والله أننا لسنا مدانون لأحد بمنّةٍ أو فضلٍ سوى الخالق عزّ وجلّ، ولا نخجل مِن سلوك شائن –لا سمح الله- أيادينا بيضاء لم تخطّ يوماً "تقريراً "، ولم تمتد نحو "مغلف "، وعيوننا لم ولن تنكسر، ولن نزيح البصر حين تلتقي العيون بالعيون.
الواقع قاسٍ وموجع ويفرط في قسوته، والخافي أعظم، الكلام كثير والقول قليل، ولا أقول إلا "في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء "؟!.. ولحديث الغياب بقية.