الطغاة والغلاة والغزاة
تحدث سمو الأمير الحسن بن طلال في جمعية عيبال الخيرية بعد أن قدمه رئيس مجلس الأعيان دولة طاهر المصري للمستمعين الحاضرين على أنهم مواطنون صالحون، ويتصفون بالأخلاق الهاشمية، ولكنهم يحنّوون في الوقت ذاته لمسقط رأسهم، وقد وصف دولته الأمير بأنه أمير عربي هاشمي، وأنه أمير للفكر والكلام الجريء.
وقد استذكر سمو الأمير زيارته لنابلس عام1965م وبعض رجالاتها الذين ساهموا في بناء الدولة الأردنية، وتطرق للحديث عن وحدة الضفتين وقرار فك الارتباط مع الضفة الغربية، وأنها أرض احتلتها اسرائيل من المملكة الأردنية الهاشمية، ولها السيادة الدستورية والقانونية عليها، وبما فيها القدس الشرقية، وما نجاح نتنياهو إلا بسبب الغياب العربي ، وأن الأقليم فيه أربع قوى رئيسة هي: الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وإيران، ثم أشار إلى انتهاء ما يسمى بحل الدولتين عملياً واقعياً، ولكنه تسآءل عمن سيدفع ثمن ذلك.
كما اعتبر سموه أن الأردن بالنسبة للفلسطينيين هو النافذة العربية المستقرة حتى يومنا هذا، وأن الأردن يجب أن يكون على رأس أولويات كل فلسطيني، وأن فلسطين على رأس أولويات كل أردني، وأن تكون القدس في ضمير كل عربي ومسلم، وتقريرمصيرها مرتبط بمليار ومائتي مليون مسلم، ومثلها مثل مكة المكرمة، كما دعى سموه لدراسة مستقبل الأقليم بشكل عام؛ ومن ذلك دراسة أوضاع اللاجئين فيه، حيث يبلغ عددهم 26 مليوناً . وقد ختم سموه الحديث بالدعوة للشورى التي تخدم الصالح العام، ثم التعهد بتنفيذ ما اتفق عليه.
وقد أجاب سموه على أسئلة بعض الحضور، وكعادة الأمير المفكر والذي يذكر نقاط ومحاور وعناوين كبيرة دون إسهاب، ويشير لأفكار وجمل صغيرة، ولكن معانيها كبيرة وعميقة، وإزاء ذلك فقد يتفق الكثيرمن الناس مع طرح الأمير ومنطقه وحجته وتحليله للماضي واستشرافه للمستقبل، وقد يختلف البعض معه في توجهاته ، ولكن مما أظنه أن الأغلبية تؤيده فيما ذهب إليه عندما أرجع سبب تراجع الأمة لثلاثة عوامل: الطغاة والغلاة والغزاة.
فالطغيان ومجاوزة الحد المقبول والمعقول من قبل الحكام ومنذ نشوء الأمة الإسلامية، وفرض رأي الحاكم على الناس ، وعدم تحقق الشورى عملياً، وإن وضع الفقهاء شروطاً وقيوداً نظرية لأهل الحل والعقد، ولكن واقعياً لم نحقق ذلك في تاريخنا الممتد إلا قليلاً، بل وتعدى الطغيان واكتسب الصفة الدينية الشرعية أحياناً، باستصدار فتاوى تبيح صور وألوان وأشكال الجبروت .
وعلى الرغم من مرور ما يزيد على أربعة عشر قرناً إلا أن أمثلة الحكام الذين يتصفون بالعدل والشورى مازالت نادرة، وكلنا يتغنى بعدل عمر بن عبدالعزيز والذي استمرت مدة حكمه عامين فقط، ومن شدة إعجابنا به ألحقناه بالخلافاء الراشدين. ونفخر بالمأمون وتأسيسه دار الحكمة، ولكنه أجبر الناس على القول بخلق القرآن، فاضهد العلماء وسجنهم وعذبهم.
ولم تدرك الأمة أن سبب إرسال لموسى عليه السلام، إنما كان لمحاربة طغيان وجبروت فرعون( اذهب إلى فرعون إنه طغى) وكم من فرعون قاد مسيرة الأمة خلال مراحل حياتها؟ فنحن أمة ( وشاورهم في الأمر ) ( وأمرهم شورى بينهم) ولكننا أبعد ما نكون عن جوهر الشورى وحقيقتها.
أما العامل الثاني: فالغلاة المتطرفين، وما أكثرهم، وإن ظهرت بوادر وجودهم في حياة رسول الله _ صلى الله عليه وسلم_، وذلك عندما طلب أحدهم منه العدل في القسمة والعطية، إلا أنها إزدادت في عهد عثمان _ رضي الله عنه _، وتجلت مجالدة بالسيف وطعناً بالسنان في عهد علي _ رضي الله عنه _ ، بانشقاق الخوارج. وما زال فكرهم وما تولد منه أو عنه يتخذ صوراً شتى، ومسميات متعددة في كل زمان ومكان، على الرغم من دخول عموم الأمة في المنهج الوسطي السمح المعتدل والذي أشار إليه الرسول عليه السلام بأنه سنته، وأن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
ولقد عملت معاول الغلو والتطرف في جسد الأمة أكثر مما عمل أعداؤها فيها، ونالوا أكثر مما ناله ألد الحاقدين عليها، بل واستطاعوا الوصول لغايات وأهداف كان من الصعب على الأعداء الاقتراب منها.
وأما الغلاة على المستوى المحلي ومن كلا الأطراف فإنهم يقترفوا من الموبقات بحق أنفسهم وأهليهم ودولتهم، ما يزيد عن أمنيات الأعداء وطموحاتهم.
وأما العامل الآخر فهم الغزاة، فقد تعرضت الأمة للغزو الذي
كاد أن يذهب بها، فمن غزو التتار غير المسبوق لكل أجزاء وبلدان الأمة وإحتلالها من أطراف الصين وحتى غرب أسيا ، وفرض حكم التتار عليها، وإجبارهم للناس على حكم الياسق_ قانون جنكيز خان_ بدلاً من حكم القرآن، ثم غزوات الفرنجة ( الصليبية ) المتعاقبة ثم انتصارها بالسيطرة على بيت المقدس وبما يقارب القرن من الزمان.
وواستمر الغرب في غزوه للأمة حتى بعد تحرير صلاح الدين للقدس فلم يتراجعوا عن حربهم، ومحاولة السيطرة والالتفاف على بلدان الأمة حتى البعيدة منها، كالاستعمار الإسباني والهولندي والبرتغالي والبريطاني ...الخ ، إلا أن الهجمة الغربية على العرب ومنذ الاحتلال البريطاني لمصر كان مختلفة، حيث عمد أولئك الغزاة لتغيير مفاهيم الأمة وقيمها، والسيطرة على قيادتها وإرادتها المباشرة، ثم وبعد رحيلهم الظاهري كان بصورة غير مباشرة.
فالمصيبة أن معظم قادة الأمة الرسميين في العصر الحديث منفذون لأهداف الهجمة الغربية، بل إن حاول البعض منهم الخروج عن ما رسم له، قام الأخرون من أمثاله ، وقادة الأحزاب والهيئات الشعبية والمعارضون في بلده ،وطالبوا بحضور الغزاة مرة أخرى، فالغازي خير من المستبد الوطني.
واليوم يبشروننا أن رومني سيزود المعارضة في سوريا بصواريخ مضادة للطائرات والدروع، وقد بات النصر قاب قوسين أو أدنى. فالفضل يعود أولاً لساركوزي وصواريخه في ليبيا. وهذا لا يعني الموافقة على قمع المستبدين للناس، فالطغيان والاستبداد مرفوض مهما كان مسمى صاحبه، ولكن في الوقت ذاته الغازي غير مرحب به ولا مرغوب فيه ، ولا أهلاً وسهلا به.
وعلى رأي الأمير فالآن توجد منطقة فراغ في الشرق الأوسط ، ولذا يجري إحداث وتبديل للقيادات القديمة، ولذلك فالعرض قائم للقيادات الطموحة والأفكار المقبولة شعبياً للتقدم والمنافسة، ولكن بشرط الاتساق أو التنسيق مع الغرب الغزاة ، وكل ينسق بطريقته.
وأخيراً فلقد تعرضت الأمة العربية قبل الإسلام لغزوة الحبشة وبقيادة أبرهة، فعمل عبدالمطلب على حماية حماه وما يقدر عليه، ووكل أمره وأمر بيت الله لربه، فكان النصر، ونزل بذلك قرآن يتلى إلى يوم القيامة، وأما أبو رغال، فقبره رجم بالحجارة في الجاهلية، واسمه يذم في الإسلام.
وأخيراً فإن تحققت الشورى عملياً، وطبّق الناس كلهم حكاماً ومحكومين نتائجها، وإن جعلت الوسطية للأمة منهجاً متبعاً، وإن دافعت الأمة عن حياضها صفاً مرصوصاً واحداً، ولم يفت في عضدها العملاء من أبناء جلدتها، لا شك عندئذ أنها ستلحق بأمم الأرض المتقدمة، وهي مرفوعة الهامة.
سمو الأمير نشكر لك جرأتك وشفافيتك وصراحتك، وأما دولة طاهر المصري بأدبه وخلقه ومنطقه وكلماته العميقة الهادفة فقد عبّر عن رأي الكثيرين، ولجمعية عيبال الخيرية المزيد من النجاح.