قفزة إنسانية حرة

ارتبطت المغامرة والشجاعة بانعطافات كبيرة في تاريخ البشرية، إذ لم يتوقف شوق الإنسان عن التجريب في كل ما هو جديد وجريء ومختلف. وحينما ترتبط المغامرة بالحرية والطبيعة، تبدو ملامح مختلفة لمجد الإنسان. وهذا ما فعله المغامر النمساوي فيليكس بومجارتنر في القفزة الحرة والأجرأ في تاريخ البشرية. في تلك اللحظة، انتاب المرء شعور مختلف بمجد الإنسانية، وبفخر الانتماء لها بدون حدود ولا قوميات ولا أديان ولا ثقافات.
في لحظات نادرة، حبس فيها مئات الملايين من البشر في جهات العالم الأربع أنفاسهم، استطاع هذا المغامر أن يحطم ثلاثة أرقام قياسية، في واحدة من أصعب أنواع المغامرات وأكثرها إثارة، وهي: الرقم القياسي لأعلى منطاد مأهول، وأطول سقوط حر، وأعلى قفزة في العالم بالمظلة، فيما لم ينجح في تحقيق أعلى سرعة سقوط. وهذا الإنجاز الذي يسجل للإنسانية وهي تدشن الألفية السادسة في عصر الكتابة والمعرفة المدونة، يكشف للبشر قيمة الحرية والمعرفة والشجاعة، ويعيد سؤال البشرية القادم في التحالف أو المواجهة مع الطبيعة.
القصة فريدة وذات وزن علمي وإنساني، كما أنها ذات قيمة إعلامية، إذ شاهدها على الهواء مباشرة، ثانية بثانية، نحو 300 مليون إنسان، بينهم 6 ملايين عربي. وستكون هذه القصة موضوعاً لعشرات المؤلفات والأفلام السينمائية، وحديثا طويلا للمغامرين؛ كيف لرجل وضع في كبسولة أسفل منطاد هيليوم ضخم، أوصله من نقطة على الأرض إلى حدود الغلاف الجوي، أن يقفز من الكبسولة ويطير قفزاً باتجاه الأرض، ليكون أول إنسان يكسر حاجز الصوت، وأن يتم كل ذلك وكل البشرية تراقبه لحظة بلحظة.
القفزة الإنسانية الحرة كانت باتجاه الأرض، وخضعت لقوانين الطبيعة، ما سيعيد الجدل الفلسفي القديم الآخذ في العودة مجدداً، ولكن هذه المرة بالأفعال: ماذا نريد من الطبيعة؟ وأي علاقة يسعى نحوها الإنسان؛ التكامل والاندماج في الطبيعة بالمزيد من المعرفة، أم الصراع والسيطرة والاستحواذ (على الطبيعة)، وبالمعرفة أيضاً؟
هذا السؤال المعرفي القديم الجديد لفت انتباهي إلى الزاوية الإعلامية للحدث. فالمغامر الأول الذي نفذ قفزة قريبة في العام 1963، لم ينل كل هذا الحضور الإعلامي الذي حققه المشهد التلفزيوني المباشر؛ كيف غيرت وسائل الإعلام الحديثة والبث المباشر اهتمامات الشباب والمراهقين والأطفال إلى فضاءات جديدة؟ فالجيل الجديد تجذبه هذه المضامين الإعلامية بقوة، ولعل نوعية الجمهور العربي الذي تابع قفزة فيليكس تكشف حجم الفراغ الإعلامي الذي تعانيه المجتمعات العربية، رغم كل هذه الفضائيات والمنابر الإعلامية الفقيرة والمتشابهة، وحجم التعرض القسري الذي يُفرض على الملايين من الأجيال الجديدة.
ثمة غياب وانكشاف معرفيان من نوع آخر، يرتبط بالعلوم وبالجرأة والحرية؛ تلك المساحة التي يمكن لوسائل الإعلام أن تسهم في ملئها، وهي واحدة من أهم موضوعات الجذب للشباب الجديد في أنحاء العالم الأخرى. هنا أتذكر النجاح الذي حققه، قبل خمسة أشهر، الصحفيان "بوبي جونسون" المراسل السابق للغارديان لشؤون العلوم والتكنولوجيا، و"جيم جلير" الذي عمل في مجلات علمية عريقة (أتلانتك وسيانتيست). فالاثنان أرادا إنشاء مصدر مفتوح للمقالات الصحفية المعمقة في شؤون التكنولوجيا، يقدم نوعية جديدة من الصحافة الاستقصائية العلمية القائمة على الجرأة والآفاق المفتوحة. ووجها نداء عبر مدونتهما لجمع مبلغ 50 ألف دولار، ووعدا بإعادة المبالغ في حال عدم استكمال المبلغ المطلوب، أو إذا ما تعثر المشروع. وفي أقل من يومين، جمع الصحفيان أكثر من 140 ألف دولار، وكان معظم المتبرعين من الشباب ومن فئات التبرع البسيط (5 دولارات). وقد أنجز المشروع "رد مارتر" تحت شعار "اقرأ شيئاً ما مهماً: صحافة خاصة بالمستقبل".
نسرد هذه الأمثلة للإجابة عن السؤال الذي يقفز إلى الذهن: لماذا لا يوجد لدينا مغامرون أمثال فيليكس منذ قصة عباس بن فرناس الشهيرة؟
( الغد )