ما أضيق السماء حين تُرى من قعر بئر

من منظور بعض الكتاب والسياسيين الأردنيين، يبدو العالم منقسما بين معسكرين، واحد يستهدف الأردن، وطناً وهوية وكياناً، وآخر يقف إلى جانبه، أقله في المدى ما لم يثبت العكس...ووفقاً لهذه القراءة المستندة إلى نظرية «رغيف الشعير، المأكول والمذموم»، يجري التعامل مع مختلف عناوين السياسة المحلية، ومن منظارها أيضاً، تُرى أزمات المنطقة وملفاتها.
قبل أسابيع وأشهر قليلة، كانت «المؤامرة على الأردن» تتجلى عند هؤلاء، في ما يخطط له حلف تل أبيب وواشنطن مع «الإسلام الأمريكي»، يومها جرى حديث كثيف عن «حل إسلامي» للقضية الفلسطينية، ركائزه «حكم حماس» على ما تفيض فيه «الأحادية الإسرائيلية» من كانتونات في الضفة الغربية، وحكم الإخوان في الأردن (إذا ما قُدر له أن يرى النور)، برعاية سعودية قطرية أمريكية، وبما يخدم حصراً مصالح إسرائيل وأطماعها.
اليوم، تغيرت الصورة على نحو مختلف، الهدف لم يتغير، و«المؤامرة» ما زالت على حالها كما يرى أًصدقاؤنا، لكن الذي تبدل هو فرسانها فحسب، إذ بدل حماس، التي يبدو أن فرصها في «السيطرة على الضفة الغربية» باتت متراجعة في ظل إخفاق الرهانات على تغيير سريع في سوريا، وقد جاء الوقت –حسب هؤلاء - لتقوم السلطة الفلسطينية، بالدور بدلاً عنها، أما إخوان الأردن، فقد أسقطت «الحركة الوطنية الأردنية» أوهامهم في اختطاف «الحراك» وإبرام الصفقات مع تيار داخل الحكم والحكومة في الأردن.
لتكون النتيجة، أن الجميع بلا استثناء، ضالعٌ في «مؤامرة» على الأردن، شعباً وهويةً ووطناً وكياناً....لكأن لا وظيفة لهذه الأطراف ولا دورا، غير استهداف الأردن و»التآمر» عليه، علماً بأن مختلف الأطراف المذكورة، لم تترك وسيلة إلا ولجأت إليها، للبرهنة على عميق حرصها على الأردن، وطناَ وشعباَ وكياناَ وقيادة، باعتبار ذلك مدخلا ضرورياَ وشرطاً مسبقاًَ للدفاع عن المصالح العليا لشعب فلسطين.
وحين اندلعت الأزمة في سوريا، نظر أصحاب هذه النظرية، إلى المشهد السوري بمجله، من «خرم إبرة» نظرية «رغيف الشعير» تلك...تصدروا الصفوف للدفاع عن النظام، قلقاً وتحسباً من البديل الإخواني المُحتمل، والذي سينعش بهذا القدر أو ذاك، فرص إخوان الأردن في التقدم صوب «الدوار الرابع»...ومن أجل تبرير ما لا يمكن تبريره من مواقفهم، لجأوا إلى إعادة قراءة تجربة «الربيع العربي» برمتها، فأصبح ربيعا «ملوناً»، بنكهة أمريكية ومذاق إسرائيلي، وأُعطيَ برنارد ليفي ما لا يستحقه من قدرات ونفوذ أسطوريين، بدا معها وكأنه القائد الأعلى لثورات الحرية وانتفاضات الكرامة في العالم العربي.
وبمد الموضوع على استقامته، بلغت مواقف أصحاب هذه النظرية، حداً مؤسفاً من «التورط» في مناهضة الإصلاح في الأردن والدفاع عن قانون انتخابي يرونه غير عادل، بل والدعوة لإجراء الانتخابات بمن حضر، والتصدي لكل من يدعو للإصلاح والتغيير، وصفقوا بحماس، لانقطاع قنوات التواصل والحوار بين الإخوان والدولة، وحثوا الأخيرة على حسم ترددها، والمضي في إتمام الاستحقاق الانتخابي من دون الإخوان، باعتبار أن في ذلك مصلحة للأردن، هويته وكيانه، وإحباطاً لمشاريع التوطين وحل القضية الفلسطينية خارج فلسطين.
مثل هذه «القراءات الضيقة» المحكومة بالهواجس والتحسبات، تجدها بالعادة متفشية في المجتمعات المنقسمة على ذاتها، وهي تذكرني باستمرار بما يجري في لبنان من سجالات ومناكفات، ترى العالم بمجمله من منظار «الطائفة» و»الزعامة» و»الحارة» لا أكثر ولا أقل...مثل هذه النظرة، تفقد أصحابها القدرة على رؤية الصورة الأكبر، فهم لا يرون في العادة، من الغابة إلا شجرة واحدة..لا يرون من السماء إلا من قعر البئر وبالقدر الذي تتيحه «فوهته».
مثل هذه القراءات تصبح عبئاً ووبالاً، معرفيا وأخلاقياً، وأحياناً نفسياً، على أصحابها، سيما حين يكتشفون بعد فوات الأوان، بأنهم كانوا يطاردون «خيط دخان»، وأنهم باتوا أسرى لقراءة لا تترك لهم سوى واحدٍ من خيارين، أما البقاء في دوامتها الضيقة للأبد، وإما مغادرتها بجميع مفرداتها، ولكن إلى الأبد أيضاً. ( الدستور )