بارود سياسي

لأن السياسة حرب لكن بأدوات واسلحة اخرى فان لها دخانها، وثمة الان سُحُب من هذا الدخان تحجب الفضاء والافاق في هذه المنطقة من العالم، انه تصعيد اعلامي متبادل، ومقاربات متكررة بين مجمل القرائن التي تحيط بنا وبالاحداث من حولها وما يماثلها من تلك القرائن التي صاحبت بواكير الحروب. وبالتحديد الحربان العالميتان في القرن الماضي.
وذريعة توازن الرعب لا تكفي وحدها لاقناع الناس بان الحرب التي تدق طبولها منذ اعوام قد أُجلّت بالفعل، والارجح انها استبدِلَت بحروب اخرى، منها الاقتصادي والسياسي اضافة الى الاعلامي والثقافي وما يطفو على سطح المشهد من قرائن الحرب التي تلوح في الافاق لكن بصورة غائمة هو السلاح النووي، سواء من حيث اصرار بعض الاطراف ومنها الولايات المتحدة والدولة العبرية على اجهاضه قبل الاكتمال او من حيث التراشق الاعلامي المشحون بالايديولوجيا حول مستقبل هذه المنطقة، التي طالما كانت عقب اخيل لامبراطوريات وقوى كونية.
لقد تصاعد الدخان السياسي مرارا في سماء الكاريبي خلال الحرب الباردة، ولم يحدث ان خلت السماء منه في اية مرحلة، لان العالم كما يقول واحد من ابرز مؤرخي عصرنا وهو ويل ديورانت لم ينعم باي سلام وما كان يبدو سلاما هو في حقيقته هدنة مؤقتة، يجري فيها اعادة شحذ الاسلحة والحسابات، والبحث عن مفاعيل عسكرية من خلال الاحلاف واعادة ترتيب الاجندات والاولويات، لكن الحرب تبقى اولوية لكل دولة تحرص على استمرار بقائها وسيادتها لهذا يقال ان التدريبات العسكرية هي الاقسى والاشد صرامة في الدول المحايدة خصوصا في شمال اوروبا، فالاركان الى سلام دائم هو مجرد وهم، لا يصحو منه ليدفع ثمنه ضحاياه، بل يتحولون الى دروس وعبر لغيرهم من البشر!
وعلى سبيل المثال فان السماء التي تظلل سورية وتركيا ملبدة الان بدخان سياسي، رغم ان الدخان العسكري والواقعي لا يتجاوز ما احدثته موضعيا قذيفة هنا او هناك واذا كانت الغيوم المشبعة ببخار الماء تمطر اذا حان موعد هطولها، فان دخان السياسة على العكس، ما ان يتزايد ويتكثف حتى يتحول الى بارود ويمطر ايضا لكن على طريقته وهي وابل من العصف والقصف والتدمير.
ومهمة مبعوثي الامم المتحدة الى البؤر الساخنة في هذا الكوكب ليست اطفاء الحرائق، بل ازاحة ما يمكن ازاحته من دخان السياسة بحيث تبدو حصيلة هذه المهمات على الاغلب مؤقتة واشبه بجرعات تخدير.
لان الصراع السياسي اذا كان مشحونا بالايديولوجيا لا تنفع معه الحول الدبلوماسية، والدليل على ذلك ان ما تشكل من لجان وهيئات دولية تحت عنوان الدبلوماسية الوقائية واستباق الازمات قبل انفجارها انتهت الى رحلات سياحية وتقارير هاجعة في الادراج,
ان اختزال الصراعات شبه الجذرية الى مجرد خلافات قابلة للحل الدبلوماسي يضاعف من الصراعات والازمات معا، ولا ندري لماذا يتهرب العالم من خلال اعلى هيئاته وصيغه الدولية من مواجهة جذور القضايا بحيث تتركز الرؤى كلها على سطح المشهد وفلسطين هي المثال بل النموذج الساطع لهذا الاختزال والهروب!!
( الدستور )