عدوان إسـرائيل على السودان...أبعد من غزة!

ليست المرة الأولى (والأرجح أنها لن تكون الأخيرة) التي تشن فيها طائرات ومروحيات إسرائيلية مقاتلة، عدواناً على السودان...في المرات السابقة، شنت القاذفات والمروحيات اعتداءات على بورسودان والطريق الساحلي، وكانت الذريعة ضرب قوافل السلاح المُهرب إلى حماس في قطاع غزة....هذه المرة، إسرائيل تضرب في العمق، وتستهدف مجمع اليرموك لإنتاج الذخائر والعتاد التقليدي، الذي تكاد تتوفر كل دولة في العالم، على مصانع مشابهة، أما الذريعة، فجاهزة باستمرار: السودان دولة إرهابية وراعية للإرهاب.
الهدف الذي ضربته إسرائيل، لا ينتج أسلحة دمار شامل، ولا وسائل نقلها (صواريخ)...مصنع ذخائر عادي، يزود الجيش السوداني ببعض ما تحتاجه بنادقه ودباباته ومدفعيته التقليدية من ذخائر...وإنتاج هذا المصنع ليس مُعداّ للتصدير إلى غزة أو جنوب لبنان، إذ حتى وفقاً للإدعاءات والمزاعم الإسرائيلية التي بررت بها “عدواناتها” السابقة، فإن السودان لعب دور “الممر” وليس “المصدر” للأسلحة المُهربة إلى قطاع غزة.
لقد سبق لإسرائيل أن وسعت دائرة عدوانها، أمنياً وعسكرياً، لتطال ساحات بعيدة عن دول الطوق...ضربت المقاومة الفلسطينية في تونس مرات عديدة، واستهدفت قادتها في أربع أرجاء الأرض...ضربت مفاعل تموز النووي العراقي...طاردت علماء إيران ومنشآتها النووية...لكنها في معرض تبريرها لكل عدواناتها تلك، كانت تدرجها، في سياق “استباقي، دفاعي الطابع”.
أما العدوان على أمن السودان وسيادته هذه المرة، فله أهداف لا صلة بها بالنظرية الاستباقية أو الدفاعية، ولا علاقة له بغزة أو المقاومة الفلسطينية...للعدوان هذه المرة أهداف تتصل بالاستراتيجيات الإسرائيلية حيال السودان وحوض النيل والقارة الأفريقية...فهو من جهة، محاولة لزعزعة نظام الخرطوم، وهز ثقة مواطنيه به، وإظهاره كدولة فاشلة، وتأليب الرأي العام السوداني عليه، إمعانا في العمل على تفتيت السودان وتفكيكه...وهو من جهة ثانية، محاولة للعبث بأول محاولة جدية لإحداث تقارب بين شمال السودان وجنوبه منذ الانفصال، وهو رسالة دامية موجهة ضد اتفاق أديس أبابا الأخير، الذي وضع “السودانيين” على سكة الحوار والمصالحة وحسن الجوار، بدل الحرب والمواجهة المفتوحة...وهو من جهة ثانية، رسالة تضامن وتشجيع، لكل الحركات الانفصالية التي ضعفت بسقوط نظام القذافي ابتداءً وقبول حكومة سليفا كير باتفاق أديس أبابا، فهذه الحركات ستتشجع بالعدوانية الإسرائيلية المنفلتة كل عقال، وهي قد ترى في إسرائيل، تعويضاَ لها عن سقوط حليفها الليبي وتراخي دعم وإسناد حليفها الجنوبي.
عدوان إسرائيل على السودان، ليس سوى حلقة من “حرب المياه” التي تشنها على مصر والسودان، وفصل من فصول الصراع على النفط وموارده في القارة الأفريقية، وهي بهذا القدر أو ذاك، استمرار للمحاولات الرامية الفصل بين شمال القارة وجنوب الصحراء، ومنع أي دور عربي أو إسلامي فاعل في تلك المنطقة...الأمر الذي يوجب تخطي الصمت وتجاوز حالة اللامبالاة التي تعيشها معظم العواصم العربية المنشغلة بكل شيء ما عدا قضية مواجهة العدوانية الإسرائيلية الهمجية.
لقد قطع التمدد الإسرائيلي في جنوب السودان وكينيا وعدد من الدول الأفريقية مستوى بالغ الخطورة، وقد اكتسب النفوذ الإسرائيلي بانفصال جنوب السودان عن شماله، قوة زخم إضافية، حيث تقيم الموساد محطة استخبارات لها في جوبا، وتزرع إسرائيل قواعد و”مجسات” و”منصات تجسس” لها على أرضه، وتتولى تدريب الجيش الشعبي الجنوبي وتسليحه، وتعمل على إقناع جوبا بنشر شبكة من السدود على النيل لتهديد شريان الحياة لمصر والسودان، وأقامت شبكة تحالفات مع الحركات الانفصالية الدارفورية، وهي تواصل تمددها “الهجومي” في تلك المنطقة، بما يتهدد الدور المصري التاريخي فيها، ويزاحم النفوذ التركي المتزايد في القارة السوداء، ويتحدى العلاقات النامية بين إيران والعديد من دول القارة.
إن وجود نظام الخرطوم، يشكل واحدة من التحديات المُتبقية في طريق بسط إسرائيل لسطوتها ونفوذها على هذه المنطقة بما تكتنزه من ثروات مائية ونفطية هائلة، وما تمثله من مكانة استراتيحية حيوية لأمن مصر واستقرارها ومستقبلها، والضربة لموقع اليرموك الصناعي، هي ضربة لمصر الجديدة بزعامة مصر والإخوان، وللعلاقات المصرية السودانية المُستعادة، بعد سنوات من القطيعة زمن نظام مبارك، وهي اختبار لجدية القيادة المصرية الجديدة في حفظ دور مصر وقيادتها ومجالها الحيوي، فهل سيتعامل العرب مع هذا العدوان بما ينطوي عليها من دلالات واستهدافات، أم أنهم سينظرون إليه كما فعلوا من قبل، بوصفه عدوان آخر، لا يستحق أكثر من الشجب و”ضبط النفس”؟!.
( الدستور )