حجم المنح: حقيقة الأمر

كثيرا ما سمعنا محللين وخبراء غير أردنيين يؤكدون أن الأردن بلد فقير، يعتمد دائما على منح ومساعدات الغير، في سياق يحمل لغة فيها "مِنّية".
وصف الأردن بهذه السمة "انطباعي" وغير حقيقي، خصوصا أن الأرقام تكشف عكس ذلك تماما.
بالأرقام، أنفقت الحكومات المتعاقبة مبلغ 55.5 مليار دينار على مدى 12 عاما، فيما بلغ إجمالي المنح التي حصلت عليها المملكة 6.4 مليار دينار، بقيمة تصل إلى نحو نصف مليار دينار سنويا، وبنسبة لا تتجاوز 11 % من إجمالي الإنفاق.
ثمة ما يفند النظرية القائلة إن الأردن بلد يعتمد في نفقاته على المساعدات والمنح الخارجية. وبموجب الأرقام، لا تشكل المنح إلا نسبة قليلة من إجمالي الإنفاق، وكان من الممكن الاستغناء عنها لو توفر للبلد حكومات تعمل وفق برامج واضحة وخطط مدروسة وسياسات رشيدة، وهنا مكمن المشكلة!
ولمعرفة قيمة الإيرادات المحلية بطرح قيمة المنح من إجمالي الإنفاق، يتضح أن إجمالي الإيرادات المحلية التي حصلتها الخزينة خلال هذه الفترة يبلغ 49.1 مليار دينار، تتوزع على ضرائب ورسوم.
هذه الأرقام تكشف حقيقة أن الأردن، وعلى قلة موارده الطبيعية، قادر على توفير مليارات الدنانير سنويا، تسدد للخزينة على شكل رسوم وضرائب. فمثلا، بلغت الإيرادات المحلية خلال العام الماضي أكثر من 4 مليارات دينار. ولو أن الجهات المسؤولة عن جميع الإيرادات المحلية طورت خططها وحسنت طريقة عملها، لارتفعت الإيرادات المحلية، وتحديدا لو تمت محاصرة بعض من التهرب الضريبي، وتحصيل الأموال المستحقة للخزينة على عدد كبير من المسؤولين المتنفذين، فضلا عن وقف تقديم الإعفاءات الضريبية وغيرها بدون معايير.
في الدراسة التحليلية التي أجراها الزميل يوسف ضمرة حول الإنفاق العام منذ العام 2000، ونشرتها "الغد" أمس، يتضح أن
66.5 % من إجمالي النفقات توجه إلى خمسة بنود، هي رواتب الموظفين والتقاعد، والدفاع والأمن، ودعم المحروقات، وفوائد القروض.
وبقراءة أرقام الموازنة وتطور حجم الإنفاق الذي نما بشكل غير مدروس وغير طبيعي، نكتشف من أين جاء هذا الانطباع، ولماذا فشلنا في الاعتماد على الذات، ولماذا تضاعفت التزامات الخزينة بدلا من أن تقل! فخلال 12 عاما، زاد حجم الإنفاق من 2 مليار ليصل إلى 7.2 مليار دينار.
تطور حجم الموازنة إلى هذا المستوى أوصلنا إلى حدود الخطر، ما يتطلب مراجعة جميع بنود الإنفاق، حتى نتمكن من تخفيف التحديات التي تطل برأسها، وتقويم الاعوجاج الذي أوجدته سياسات كل وزراء المالية السابقين.
حتى اليوم، لم تتعلم الحكومات الدرس، وسياسة الإغداق في الإنفاق ما تزال قائمة، وإلا ما معنى أن تصدر الحكومة ملحقا لموازنة العام الحالي بقيمة 800 مليون دينار، بعد كل التخفيضات التي تمت على نفقات هذا العام، سواء ما يتعلق بالإنفاق العسكري، والنفقات التشغيلية، أو حتى النفقات الرأسمالية التي لم ينفق من إجمالي قيمتها حتى نهاية شهر آب (أغسطس) سوى 350 مليون دينار؟ ما يعني أن الاستغناء عن إصدار ملحق كان أمرا ممكنا، من خلال إجراء مناقلات في بنود الموازنة بحسب ما يسمح القانون.
أضعنا فرصة الاعتماد على الذات التي لاحت منذ سنوات. وانقطاع الغاز المصري وكلفه العالية اليوم يفرضان تحديات مختلفة، أحد حلولها زيادة الإيرادات المحلية بعيدا عن جيوب متوسطي ومحدودي الدخل.
الإيرادات المحلية ليست قليلة، والثروات والمعادن الموجودة في باطن الأرض كلها تؤكد أن الأردن ليس بلدا فقيرا، فلماذا لا نستغل الإمكانات المتوافرة ونبدأ من جديد، لعل وعسى أن نعتمد يوما على أنفسنا؟!
تطبيق واحد من الحلول المهملة بشكل صحيح كان قادرا على تعويض قيمة المنح. ومعالجة اختلالات بنود الإيرادات والنفقات كفيل بتوفير حلول محلية.
( الغد )