حين توالت عدة صور من مناطق صراع متعددة، وازدحمت شاشة التلفزيون بالقتلى، قال طفلي، الذي لم يتجاوز الثامنة، ونحن نتابع صور الدمار الهائل في سورية: "احنا هون احسن شي! ما اجت اسرائيل علينا!".

فهو لم يتعلم خلال سنواته القليلة الفائتة، أن شرّاً كبيراً وهائلاً يمكن ان يلتهم العرب غير "اسرائيل". ولا يمكن لعقله الطفل ان ينسب القتل وما يحلُّ بالقتلى لغير العدوّ، العدوّ الذي حفظ اسمه دائماً في خانة أخرى، وحفظ أسماء الدول الشقيقة والصديقة كلها في الخانة المقابلة!
خانة "المواجهة مع العدو"!!
وفي طفولتنا، أيضاً، كنا نظن أن "اسرائيل" هي وحشٌ بأنياب قد يعضُّ أقدامنا ليلاً، أو يسرق جدّاتنا من الفراش، قبل أن نكبر ونفهم ونكتشف ان العدوّ قد يتخفّى بوجوه أخرى، منها وجه الممانع والمقاوم والذي أشبع اسرائيل شتماً حين كانت هي تتعشّى بالإبل!
وأن العدوّ ليس من ظهر بلباس العدو فحسب، لكنه قد يظهر بلباس البطل؛ فيخدع الناس الى حين.
لا أعرف كيف للتلفزيون ان يشرح لأطفالنا ان العدو له اكثر من صورة، وأنه ليس من خارج البيت دائماً، وأنه كما قال الحديث النبوي "من مأمنهِ يؤتى الحَذِر"، وأن صاحب البيت قد يحرق البيت.
في ثقافتنا العربية الخصم كان دائماً على هيئة واحدة، والعدو لا يشبهنا حتى في الملامح واللغة، وربما كان هذا مصدر حصانة للهوية، ولكننا بحاجة أحياناً ان نشرح لأبنائنا ان العدو كان يطلُّ برأسه أحياناً من بين صفوفنا، ويظهر أحياناً من أفراد عائلتنا، وأن الهوية ليست حصانة كافية دائماً، وانها ممارسةٌ اكثر منها هتاف مبحوح في المظاهرات أو في الخطاب الرسمي!
يحتاجُ الطفل أن يفهم أن تاريخنا وهويتنا لم يكونا دائماً كافيين للبراءة، وأن صفوفنا لم تكن دائماً مكتظة بالملائكة، وان الحياة دائماً ستظلُّ في حالة صراع، صراع بين قيم متضادة، لا علاقة لها بالهوية والأصل واللون والعرق، وأنه -إضافة لعدونا التاريخي المسَلَّم به- علينا ان نتوقع أعداء طارئين يخرجون لنا من ثيابنا، من أفراد عائلتنا الكبيرة، وأنهم منّا ببساطة!!
وليسوا كائنات فضائية كما تحاول وسائل الإعلام ان تُصوّر دائماً الخارجين على المجتمع، فتصفهم بالمندسين، وهو ما يعطي انطباعاً للمتلقّي بأنهم اندسّوا بين صفوفنا الملائكية في ظرفٍ ما او ازدحامٍ ما ولم ننتبه لهم، وكأننا كائنات مُعقّمة لا يأتيها الباطل من بين يديها!
فالتربية الإعلامية للمشاهدين تلعبُ دوراً في صناعة وعي بسيط وساذج يعتقد ان الشر يقيمُ في قارةٍ أخرى، وأننا محاطون بالحماية الكافية، وأننا كعرب ومسلمين لن يداهمنا أي طارئ في هذه المساحة الآمنة من الجغرافيا والتاريخ والهوية والدين، وهو ما يخلق لاحقاً شريحة من الناس لن تصدق ان حاكماً عربياً قومياً يبيد أطفال شعبه يوم العيد ويرمي بيوتهم ببراميل المتفجرات من السماء!
وسيكون أسهل على أفرادها أن يصدقوا ان "عصابات مسلحة" هي التي صعدت السماء بسلّم ورمت الناس بالمتفجرات.
أو سيظنون، كما قال طفل في الثامنة، أن هذه الجرائم لا يمكن لأحد ان يفعلها سوى "اسرائيل"! ( الغد )