غزة إذ تقود المنطقة برمتها إلى منعطف جديد

سنرى ما الذي سيفعله وزراء الخارجية العرب اليوم في القاهرة، هل سيعيدون “سيرة اجتماعاتهم البائسة السابقة”، أم أن هبوب رياح التغيير التي عصفت بعدد من قادة المنطقة، سوف يحقن الوزراء بجرعة شجاعة إضافية...وسوف تتاح لنا الفرصة للتعرف على نوع “العقاب” الذي ستحلقه قطر بإسرائيل، بعد أن توعد رئيس حكومتها المعتدين الإسرائيليين بعدم الإفلات منه، وهل سيكون من نفس طبيعة العقوبة التي تحمست قطر لإيقاعها بالنظام السوري، أم أنها لن تزيد عن إصدار “بيان آخر” بكثيرٍ من البلاغة والإنشاء وقليل من الخطوات العملية والقرارات الملموسة.
عندما قرأنا مضمون الاتصال الهاتفي بين الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس المصري محمد مرسي، وما ورد فيه من نصائح وعظات عن “الحكمة” و”التعقل” و”ضبط النفس”، بخاصة على لسان العاهل السعودي، شعرنا أن سقفاً خفيضاَ مسبقاً، قد وضع للعمل العربي المشترك...هنا الحكمة تأتي أولاً، بعد أن غابت 20 شهراً عن السياسة السعودية – القطرية حيال الأزمة السورية، هنا الحكمة والتعقل، وهناك الثأر والانتقام...هنا ضبط النفس والتحلي بالصبر والأناة، وهناك التسليح والتجييش والتمويل والتحريض...هنا لا بديل عن “الحلول السياسية” وهناك لا بديل عن “الحسم والتدخل العسكريين”...هنا لا صوت يعلو فوق صوت التهدئة وهناك يتوجب إطلاق النار على الداعين لها والمطالبين بها والقائمين على رعايتها، من الدابي إلى الإبراهيمي، ومن دون أن ننسى كوفي عنان، الذي صدر الحكم على مهمته بالإعدام، قبل أن ينبس ببنت شفة.
لقد أشعل نتنياهو شرارة الحرب على غزة، لكن من الواضح أن الرجل والائتلاف الذي يقف على رأسه لا يملك قرار وقفها أو حتى التحكم بها...أخرج الجيش بتفويض لإبعاد صواريخ المقاومة عن المستوطنات الجنوبية، فإذا بهذه الصواريخ تطاول تل أبيب وتضرب “العاصمة الأبدية الموحدة”...فاتحاً الباب رحباً لكل سيناريوهات الرعب والفوضى والفلتان في الإقليم بمجمله، وواضعاَ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على سكة “القواعد الجديدة للاشتباك”.
هذا التطور، لم يُستقبل جيداً في أوساط الحلف السعودي – التركي – القطري، الذي لا يريد للقضية الفلسطينية أن تعود فتحتل مكانة الصدارة في أولويات المنطقة، وهو الذي استثمر الوقت والجهد والمال الوفير، لوضع إيران مكان إسرائيل على رأس قائمة “مهددات الأمن القومي”، وهو الذي جعل من الحرب على سوريا، أم الحروب وأكثرها “قداسة وقدسيةً”..الآن تعود فلسطين، من حيث لا يقصد نتنياهو ولا يرغب بعض عرب الاعتدال، لتحتل مكانتها التاريخية في قلب الأمة وبؤرة دائرة اهتماماتها وأولوياتها.
إن أخشى ما تخشاه قوى الثورة المضادة التي تتخذ من عاصمتين خليجيتين تحديداً، مقراً ومستنداً لها، هو أن تفضي المواجهة الدامية بين إسرائيل والفلسطينيين، إلى تنشيط الجهود الرامية للملمة الصف العربي، وبعث فرص الحل السياسي للأزمة السورية، واستعادة الفلسطينيين لوحدتهم ومصالحتهم الوطنية، تحت ضغط التهديد الإسرائيلي الداهم...مثل هذه النتيجة، إن وقعت، فإنها ستكون “فألاً سيئاً” على هذا المحور، المدعوم بقوة من قوى إقليمية ودولية، بعضها يجلس في موقع المتفرج على الدم الفلسطيني المُراق، وبعضها الآخر يجلس في خنادق المؤامرة والمتآمرين على فلسطين، قضية وشعباً وحقوقا.
أحداث غزة، إن قُدّر لها أن تتطور، ومن المرجح أنها ستتطور وتتفاقم وتمتد، ستكون الامتحان الأشد خطورة، ليس للأطراف التي ذكرنها بالأمس: مصر وحماس تحديداً، بل ولتركيا (العدالة والتنمية) والسعودية وقطر ومنظومة الخليج ونبيل العربي وجامعته المُختطفة، وللمجتمع الدولي الذي أظهر رياءً ونفاقاً في التعامل مع مخرجات الربيع العربي، تسقط تباعاً على مذبح الانحياز الأعمى للدولة العبرية.
غزة، هذه البقعة الصغيرة المحاصرة، تبدو مرشحة اليوم، لإحداث انعطافة في كثير من أزمات المنطقة الكبرى، بدءا بصراع الفلسطينيين مع إسرائيل ومصائر السلام والمعاهدات العربية - الإسرائيلية، مروراً بالأزمة السورية والعلاقات العربية الإيرانية..غزة مرشحة لأن تكون المحك الأكبر، لمواقف وصدقية ونفوذ اللاعبين الإقليميين، من تركيا إلى إيران..وعلى مساحتها الضيقة جداً، ستُختبر الشعارات والتحالفات والنوايا، ما ظهر منها وما بطن، وإن غداً لناظره قريب. ( الدستور )