قتل الشهداء والشهود!

قتل الشهداء تتولاه للمرة الالف امبراطورية العدالة العرجاء في واشنطن، ولا مبالاة ذوي القربى في محيط عربي فقد البوصلة، اما قتل الشهود فتلك مهمة اسرائيلية بدأت منذ قتل أول صحفي شاهد، لهذا كان برج الشروق في غزة ومبنى آخر تتجمع فيه مكاتب اعلامية في مقدمة الاهداف الاستراتيجية للقصف، وذلك قبل الشروع في المرحلة الثانية من العدوان وهي مرحلة الاجتياح البري، كم من الخيال يحتاج الواحد منا الآن كي يتصور نفسه هناك؟ سواء كان يلملم أشلاء أطفاله أو يتحول الى رماد تحت «عمود السحاب» الذي يمطر ناراً، لكن النار والنور توأمان، وما يضيء الأزقة والدواء وطبشورة المدرسة وجبهة الصواريخ والرصاص المصبوب وأخيراً وليس آخراً سحب الدخان التي لم تحجب المشهد التراجيدي الباسل، فالعالم الآن عينه على غزة، واسمها يقترن بكل اللغات في شتى عواصم الأرض، لأن الجريمة اتضحت، ومن ثم افتضحت، وما من سبيل الآن للصمت، لأنه يتجاوز اللامبالاة الى التواطؤ.
ما يجري هو قتل مزدوج للشهداء الذين ترى فيهم واشنطن ثمناً لأمن الحلف الاول والأخير، فالأفعى التي تلدغ العصفور انما تدافع عن أمنها ضد منقاره.. لكن منطق التاريخ والاسطورة والعقائد هو ان تعوض الارادة الفذة النقص في حروب جائرة وغير متكافئة في رحم أمه حتى أقاصي هذا الكوكب.
ان كل حروب الاحتلال تكون غير متكافئة بمقياس حواسيب الاسلحة والتكنولوجيا، وما حدث في فيتنام كان مثالاً، لكنه تحول بفضل الصمود والمقاومة الى أمثولة عن عصفور انتصر على الغراب، وفراشة حلقت بحرية في سماء عادت الى صفائها بعد ان ملأتها بالدخان غربان الفولاذ.
غزة الآن لا تستغرق في الأنين والاستغاثة، بعد ان جربت ذلك مراراً وأدركت بأن المرسل اليه اما نائم أو ميت أو مشتبك مع أخيه في حروب هابيل وقابيل العربية، التي تعيد انتاج أيام العرب البسوسية، لكن بتكنولوجيا ما بعد الحداثة وايديولوجيا ما بعد القومية والعروبة.
لهذا لم يسلـّم القطاع أمره الى من قاطعوه ويستهدفون تقطيعه، وهو اذ يقاوم بما تيسر له يبرهن للعالم بأسره على استحقاقه للحياة، وغزة ذات الاسماء والالقاب العديدة في زمن السلم، هي الآن غزة ذاتها باسمها الصريح، وفي غمدها الجغرافي الذي تحول الى قمقم قبالة بحر أعلن العصيان على القراصنة وتحت سماء تغسل أعمدة الدخان بمطر سخيّ.
قاتلت غزة ولا تزال على عشرين جبهة وجبهة، جبهة الحصار والظلام والظمأ، والبيوت في غزة التي تعيش في العتمة هو هذه النيران، فهي الدليل الى جُحر القاتل وهي التي تفتضح الخذلان المتكرر لدى من ادركوا بأنهم وحيدون، لكنها وحدة الرّماح المغروزة في الرمل تحت سماء ملبدة بالطائرات لا بالغيوم والجنرالات الذين أخفقوا في رمي غزة الى البحر يحققون الآن ولم يقتربون منها عبر اليابسة، اما السماء فلن تكون ذات فحيح عبري حتى لو ازدحمت بآلاف الاباتشي والفانتوم.
هؤلاء الاطفال الذين تستهدف اسرائيل من خلالهم مستقبلنا تلبية لما وعظت به غولدمائير وهو مطاردة الجنين الفلسطيني.
( الدستور )