تمرين في الديمقراطية

كل ما يجري في مصر؛ محاصرة مبنى المحكمة الدستورية ومنع القضاة من مباشرة عملهم في رعاية مصالح الدولة والمجتمع، ومنها النظر في مدى دستورية الإعلان الدستوري الأخير، ومنع الرئيس المصري محمد مرسي من إلقاء الخطبة يوم الجمعة الماضية في أحد مساجد القاهرة، وعودة الاحتجاجات والمظاهرات المليونية لتعصف بأعصاب القاهرة، وقدرة الشعب على الرد المتبادل بالملايين.. كل ذلك له معنى واحد، وهو أن مصر، على رأي شاعرها الكبير أحمد فؤاد نجم، ما تزال ولّادة، وأن كل ما يحدث معناه بعض من مخاض الديمقراطية.
هذه لحظات ميلاد الديمقراطية التي لا تقبل القسمة إلا على نفسها، ولا تقبل الاحتكار ولا الإقصاء ولا التهميش، وليست طريق الندامة كما تصفها بعض الأقلام. فكل ما يحدث، على الرغم من حجم الضجيج المتبادل، ما يزال في الحدود المعقولة من التعبير السلمي وبأدوات التعبير الديمقراطي؛ فمصر لن تنزلق إلى حرب أهلية مهما اشتدت الأزمة.
الرئيس المصري الشرعي والمنتخب استخدم نفس الأداة التي أعابها على العسكر قبل أشهر في إعلانه الدستوري الأخير، ومن حق التيارات الأخرى أن ترفض ذلك الإعلان، وأن تجمع قواها في مواجهته. والرئيس المنتخب يكره المحكمة الدستورية التي أدى اليمين الدستورية أمامها، فيما تذهب جماعته لمحاصرة المحكمة وتمنع القضاة من أداء عملهم. والرئيس يطرح مبادرة للحوار، ويذهب في الوقت نفسه إلى تحديد موعد للاستفتاء على الدستور غير المتوافق عليه، ويأتيه الرد باستمرار العصيان المدني وتعطيل مرفق القضاء.
يبدو أن الرئيس ما يزال يتعلم السياسة، وفي المقابل من حق الشعب المصري أن يمارس تمرينا حيا في الديمقراطية الساخنة. مصر نفسها لن تقبل القسمة إلا على نفسها، ولا يمكن أن يُفرض عليها دستور مفصل على مقاس جماعة بعينها. والإخوان المسلمون، وهم أكثر حركات الإسلام السياسي الحديثة والمعاصرة رشدا، يضيّعون على مدرستهم السياسية فرصة تاريخية قد لا تتكرر، تتمثل في المصالحة بين الإسلام السياسي والديمقراطية. وللأسف، فإن الكثير من المؤشرات لا تدل على أن النظام الجديد في مصر يمشي في اتجاه تدشين تلك المصالحة؛ إذ ثمة تيار داخل الجماعة هو الأقوى يذهب إلى تكريس الهيمنة على كافة مفاصل الدولة، ويرفض استكمال بناء مؤسسات الدولة.
الجماعات المدنية والليبرالية على الجهة الأخرى ليست خالية من سحرة فرعون، لكن عليها أن تتحمل ثمن الديمقراطية وآلامها. ربما تكون اللغة السائدة في أجواء الأزمة قد وصلت إلى الدرك الأسفل من التدني، لكن يبقى حوارا بالكلمات لن يصل إلى الطلقات. فاكهة السياسة في مصر أن المجتمع المصري يكاد يكون المجتمع العربي الوحيد الذي أنجز كتلة ديمقراطية تاريخية (الجماعة الوطنية الديمقراطية) تعمّق استيعاب المجتمع للإصلاح، وتمنع الاحتكار السياسي والإقصاء. والأهم هو أن هذه الكتلة محصنة مجتمعيا، وتبني الثقة داخل المجتمع، وتحرص دائما على إبقاء خطابات الإصلاح والتنمية السياسية في دائرة الحكمة والعقلانية واستشعار المصالح الوطنية بحساسية واضحة. لذا، لن تنزلق الأحداث في مصر إلى الأسوأ، بل كل ما يجري لا يعدو أن يكون أكثر من تمرين حي في الديمقراطية.
( الغد )