إحياء منظومة النزاهة الوطنية

الخطوة الملكية بتشكيل لجنة لمراجعة منظومة النزاهة الوطنية، تحتاج إلى التوقف والمتابعة، من خلال وضع هذه اللجنة المهمة في دائرة الاهتمام الوطني، بأن تتابع جيدا من قبل الرأي العام؛ بمعنى أن نضفي عليها مسؤولية سياسية ومجتمعية وأخلاقية. فمن المفترض أن تُبنى على هذه اللجنة توقعات عالية. وعلى الإعلام المستقل أن ينبه الرأي العام إلى رفع سقف التوقعات عاليا. فقد حان الوقت لمحاكمة ومراجعة جريئتين للأطر والمؤسسات والأجهزة المعنية بمكافحة الفساد وضمان كفاءة الدولة، بعدما أضعنا الفرصة أكثر من مرة لمحاكمة جريئة للفساد نفسه.
الرسالة الملكية كانت واضحة وذات سقف عال، وتشير بشكل مباشر وغير مباشر إلى أننا بحاجة إلى عمل جذري وثورة حقيقية في استعادة كفاءة الدولة وتحصين القطاعين العام والخاص ضد الفساد، وتحديدا في أدوار وكفاءة الجهات الرقابية، وتعزيز التعاون بينها، وربما إيجاد مظلة مشتركة لها جميعا، ومراجعة التشريعات النافذة وسنّ تشريعات جديدة.
تعدد الجهات الرقابية شكل خلال السنوات الماضية تحديا حقيقيا لمنظومة النزاهة الوطنية، بأبعادها التشريعية والمؤسسية. وطالما اكتشف الرأي العام حجم المياه المتسربة من تحت هذه الجهات، في الوقت الذي تراجعت فيه أدوار القضاء في متابعة مهام هي في صلب موقعه الدستوري والقانوني، وهي أساس رسالته ودوره الوطني. في عهد الإمارة، كان هناك مكتب المفتش العام للدولة الذي تصب فيه كل تقارير المؤسسات والجولات الميدانية، فيما كان المفتش العام يستمع للناس ويقوم بجولات ميدانية على محافظات البلاد.
وفي أكثر من مرة، تمت إقالة محافظين أو حكام محليين نتيجة هذه الجولات. اليوم، تبدو فكرة المراقب العام للدولة، كجهة تجمع كل الجهات الرقابية بعد ترشيدها وترشيقها، جديرة بالدراسة.
أزمة مأسسة الإصلاح هي الأعمق بين أزمات الإصلاح، والمتمثلة في عدم القدرة على تحويل فعاليات وجهود الإصلاح إلى أطر مؤسسية وتشريعية واضحة، يمكن البناء التراكمي فوقها. إذ بقيت الحكومات مترددة في استكمال القوانين الأساسية المرتبطة بالإصلاح، وأهمها حزمة تشريعات النزاهة الوطنية.
إن أحد مصادر فوضى التعامل مع الفساد أو الاتفاق على تعريف للفساد، هو آلية تشكيل النخب الحكومية ونخب مؤسسات الدولة الأخرى، وسيادة منظور من القيم المشوهة في منظومات الولاء والانتماء تجعل من الولاء للأفراد والجماعات المرجعية، المعيار الأول الذي يتجاوز كل ما يعرف عن الانتماء للأوطان والكفاءة والجدارة والنزاهة، وبما يتجاوز حتى فوضى الولاءات التقليدية في أبعادها القرابية.
يبدو ذلك داخل المؤسسات وعلى هوامشها، وفي القطاع الخاص، وفي مؤسسات المجتمع المدني، وحتى تلك المعنية بمراقبة الفساد وتثقيف الناس بثقافة المساءلة. في المقابل، يغيب كثير من القيم الكبرى في تشكيل النخب في مسار بناء الدولة الوطنية؛ إذ تتحول عملية التحديث إلى موجات من العصف الذي لا يخلو من التدمير، فتعمل الفوضى على إزاحة البنى الاقتصادية والاجتماعية التقليدية، وتعجز عن إيجاد بدائل حقيقية وفاعلة مكانها، وتخلق ثنائيات جديدة تعصف هي الأخرى بالأوضاع والبنى الاجتماعية. ويضيع وسط هذه التحولات حتى المفهوم المشترك للفساد. وفي ضوء الأزمات الاقتصادية المتتابعة، ووسط آثار ارتفاع كلف الحياة الذي يعصف بقواعد اجتماعية عريضة، كم نحن بحاجة إلى عمل كبير يقف في وجه أنماط جديدة متوقعة من الفساد بقي المجتمع الأردني، لعقود طويلة، محصنا ضدها.
الحاجة إلى منظور جديد في بناء السياسات الاقتصادية الاجتماعية يحتاج في هذا الوقت إلى الخروج من هواجس صناعة الأحلام والأوهام إلى المكاشفة والمراجعة، إلى معايير واضحة لجودة الأداء الحكومي وحوكمة فاعلة لإدارة الدولة وعلاقتها بالمجتمع والسوق، وإلى حدود فاصلة بين الفساد وشبهة الفساد، وإلى حماية المبلغين عن الفساد، وإلى مراجعة جريئة وجادة لقانون الحق في الحصول على المعلومات.