الديمقراطية العميقة

كم من المواطنين المصريين الذين ذهبوا أمس للإدلاء برأيهم بالدستور قد قرأوا فعليا الدستور الجديد من المؤيدين والمعارضين على حد سواء؟ وهل قامت وسائل الإعلام بدور جاد بعيدا عن الانقسام والاستقطاب بشرح الدستور الجديد للناس؟ إذن ما الخلفية التي قرر المواطنون غير المؤدلجين على أساسها منح تأييدهم أو رفضهم للدستور الجديد ؟
حالة الخوف على التحولات الديمقراطية في مجتمعات الربيع العربي مشروعة تماما، وهو ليس خوفا مرضيا بل استجابة منطقية ترى كيف تذهب الأمور في هذه المجتمعات نحو المزيد من خلق الحواجز التي تبعد الناس عن الممارسة الديمقراطية الفعلية، وأحيانا بما يتجاوز ما نتوقعه من المرحلة الانتقالية، بل قد تصل بعض التحولات التي أخذت تطل برأسها إلى خلق قطيعة موضوعية بين هذه المجتمعات والممارسة الديمقراطية، كل هذه المخاوف تطرح موقع التحولات السياسية العربية كما هو الحال في مصر وليس بعيدا عن ذلك الأردن للمناقشة من منظور الديمقراطية العميقة.
توجد ثلاثة أبعاد أساسية للديمقراطية العميقة، علينا أن نراقب مدى تمثل مجتمعات الربيع العربي اليوم لها، وهل يفسر غياب أبعاد الديمقراطية العميقة حالات التعثر والضجيج والقطيعة مع أفعال ديمقراطية تأسيسية تشيد على أسس متينة، البعد الأول: العمق الاجتماعي للديمقراطية أي اتساع القاعدة الاجتماعية المؤمنة بالإصلاح والمعتقدة بالديمقراطية طريقا للحل ولتغيير نوعية حياة الأفراد والجماعات نحو الأفضل؛ أي أن نبحث عن عمق الديمقراطية في القواعد الاجتماعية العريضة، بحيث يكون حضور المطالب الديمقراطية ليس مجرد حضور وعمل نخبوي بل يذهب عميقا في المجتمع والحياة اليومية وفي الثقافة الشعبية، ويتجسد في المجتمع المدني الفاعل، فالعمق المجتمعي للديمقراطية يعني التحول الكيفي العظيم الذي يجعل من الانقسامات الاجتماعية الحادة حول الأديان والمذاهب والاثنيات والثقافات الفرعية وغيرها حالة من التنوع داخل الوحدة وبالتالي مصدرا للثراء وقوة المجتمع.
البعد الثاني: العمق النفسي للفرد في مدى تمثل الأفراد للقيم الديمقراطية في المشاعر والأحلام والانفعالات وفي السلوك اليومي، لذا في غياب الديمقراطية العميقة نتحدث عن ديمقراطيات تشيّد بدون ديمقراطيين، وعن نخب تصعد إلى السلطة على سلالم الديمقراطية دون أن تكون قد تشربت بشكل حقيقي للقيم الديمقراطية. ولطالما شهدنا نخبا وزعماء صعدوا على ظهر الديمقراطية وما إن وصلوا حتى ركلوها بالأقدام.
لذا، يذهب هذا المبدأ الى البحث عن النظم المعرفية والانفعالية للأفراد وتحديدا الفئات القيادية؛ وهل هي ديمقراطية في سلوكها السياسي واليومي وفي قناعاتها، الأمر الذي يجعل تدريب القيادة على الديمقراطية العميقة منهجا نفسيا وسياسيا معترفا به.
البعد الثالث: الديمقراطية التفاعلية، وهي تنطوي على التفاعل الجماعي والمؤسسي، ومدى تشكل المجال العام المؤسس على أسس متينة توفر فرص التعبير العادل بدون خوف أو تهميش أو اقصاء في الشارع، المقهى، الجامعة، النادي وفي الساحات العامة؛ ما يوفر للعمق المجتمعي فرص التعبير المتساوي. وتلعب في هذا النمط الديمقراطي وسائل الإعلام التعددية ومؤسسات التنشئة الناضجة دورا اساسيا في عمليات الغرس الثقافي للديمقراطية العميقة.
وبالعودة الى المجال العام العربي الجديد الآخذ بالتشكل منذ انطلاق الثورات الشعبية والحركات الاحتجاجية نلاحظ حجم الفقر الديمقراطي الاجتماعي والثقافي الذي يعيق التقدم، الأمر الذي قد يطيل من المرحلة الانتقالية ويزيد من تعقيد أزماتها ومن عذاباتها وقد يشكل انتكاسة عميقة.
إن مخاطر غياب الديمقراطية العميقة يتجاوز في الحالة العربية إطالة عمر المرحلة الانتقالية إلى تحول هذه المرحلة إلى أداة للمزيد من الاستقطاب السياسي والديني والمذهبي، وبالتالي الانقسامات الاجتماعية الكارثية.
( الغد )