إما الظلم وإما الظلام

تم نشره الخميس 20 كانون الأوّل / ديسمبر 2012 12:53 صباحاً
إما الظلم وإما الظلام
غسان شربل

العيش المتواصل مع الأخبار العربية مضر بالمزاج وبالصحة النفسية أيضاً. لهذا اهرب أحياناً إلى المكتبات. ابحث عن كتاب بعيدين ومواضيع بعيدة. ومنذ سنوات تسعفني هذه الكتب في محاربة ارتفاع منسوب الجثث ولوائح الاغتيالات. كنت ابحث عن كتاب في مكتبة حين استوقفني شاب سوري من قراء «الحياة».

يعتقد القراء أحياناً أن الصحافي يعرف اكثر مما يكتب ربما بسبب المتابعة المستمرة أو معرفة الأشخاص ومسارح الأحداث. لهذا امطرني الشاب بسلسلة من الأسئلة كشفت عمق القلق الذي يفترسه. سألني:» متى سنستطيع العودة إلى سورية؟ هل صحيح ما يتردد عن أن النظام سيسقط خلال حفنة أسابيع أو شهور؟ هل يمكن أن تغرق سورية في حالة من الصوملة أم ستمضي سنوات من عدم الاستقرار على غرار ما عاشه العراق؟ وهل صحيح أن الحسم العسكري سيؤدي إلى إمساك المتشددين بالسلطة فيكون قدر سورية الانتقال من الظلم إلى الظلام؟ وهل دفع السوريون كل هذه الأثمان للتخلص من تسلط البعث وأجهزته ليقعوا تحت وطأة أفكار شبه طالبانية ستؤدي إلى نهاية سورية التعايش والتعدد؟».

أوجعني سؤال الشاب عن موعد العودة. ذكرني بأسئلة كان يطرحها الصوماليون والعراقيون واللبنانيون بعد استباحة بلدانهم من الداخل والخارج. يحلم الشاب بسقوط النظام ولا يرضى بأقل من ذلك لكنه يخشى اليوم التالي بسبب ما سماه «ضعف القوى المدنية والديموقراطية أمام أصحاب البرامج الشمولية والمقاتلين الوافدين من بلدان بعيدة».

تحادثنا أمام رفوف الكتب وحاولت مواساة السائل قدر استطاعتي فأنا أيضاً اسأل عن اليوم التالي المفتوح على احتمالات كثيرة. وحين عدت إلى الفندق ظلت عبارة «إما الظلم وإما الظلام» ترن في رأسي على رغم شعوري أن الطريق الثالث وارد وإن كان محفوفاً بالصعاب.

ذكرتني العبارة بما قاله لي في دمشق قبل سنوات الشاعر محمد الماغوط في منزل صديقنا المشترك فخري كريم. كان الماغوط مجبولاً بيأسه من الواقع العربي. خاطبني قائلاً:» لا تسقط في الأمل. لا تكذب على نفسك. لا شيء يرتجى ما دام الخيار المعروض علينا هو: إما أبو نجمة (ويقصد الضابط) وإما أبو لحية (ويقصد المتشدد). الأول ينتزع أظافرك والثاني ينتزع حريتك وعنقك. نحن على قارعة التاريخ ولا علاقة لنا بالمستقبل. إننا ننقرض عملياً على رغم امتلاكنا موهبة التكاثر. يجب أخذ عينة من ترابنا إلى مختبرات العالم الراقية. قد تكون المشكلة في التربة نفسها. تنجب ضابطاً أو تنجب طالبانياً. الليل طويل».

راودني سؤال صعب. وماذا لو كان الماغوط حياً هذه الأيام؟ ماذا كان سيقول وماذا كان سيكتب؟ بماذا كان سيعلق على بقايا القرى وبقايا المدن وبقايا سورية وبقايا العائلات؟ على بقايا حمص وبقايا حلب وبقايا دمشق؟ على حطام الأسواق القديمة وحطام التعايش وحطام التاريخ وحطام الياسمين؟.

كان الماغوط ، كما الشاب الذي استوقفني، مذعوراً من الخيار القاتل بين الظلم والظلام. لكنه كان محظوظاً. ليس فقط بسبب منجم الغزلان البرية في دماغه. وليس فقط بسبب لجوئه باكراً إلى غابة روحه ومخيلته مستدرجاً الأقمار والينابيع وعناقيد الجمر. وليس فقط لأن اللغة كانت تستحم في عينيه وتفر من قبور القاموس. بل أيضاً لأن بائع الصور والسموم حالفه الحظ لمرة إذ غاب قبل أن يشهد أهوال الظلم وأهوال الظلام.

أتمنى أن يكون الماغوط مخطئاً. وأن يكون الشاب مبالغاً. هذا الخيار القاتل ليس قدراً. لا بد من نافذة في اتجاه الحرية والديموقراطية والكرامة والاعتراف المتبادل بين المكونات والانتماءات. تستحق سورية العيش في ظل دولة لا تقوم على الظلم ولا تعتنق الظلام.

( الحياة اللندنية )

 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات