«الدرجات التسع والثلاثون» لجون باكان: الحكام الذين لا يختارهم أحدٌ

تم نشره الأربعاء 26 كانون الأوّل / ديسمبر 2012 12:38 صباحاً
«الدرجات التسع والثلاثون» لجون باكان: الحكام الذين لا يختارهم أحدٌ
إبراهيم العريس

في عام 1935 حقق ألفريد هتشكوك، الذي كان لا يزال إنكليزياً حتى ذلك الحين، أي قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة ليصبح لاحقاً واحداً من كبار سينمائيّي هوليوود، حقق واحداً من أشهر أفلامه الأولى: «الدرجات التسع والثلاثون»، وهو الفيلم الذي أعلن فيه، بأسلوب فني شيق، بداية حربه ضد النازية، وإن كان في شكل موارب. ذلك أن الفيلم هو قبل ذلك عمل عن الغموض والصراعات الخفية والبراءة، مستقى أصلاً من رواية كتبت في عام 1915، أي قبل زمن طويل من ولادة النازية التي حقق هتشكوك فيلمه لمحاربتها. والحقيقة أن «الدرجات التسع والثلاثون» تظل الرواية الأشهر لمؤلفها الذي يكاد اسمه يكون مجهولاً في أيامنا هذه: الإسكتلندي جون باكان، الذي وضع عشرات الأعمال القصصية والروائية، لكن تقلبات حياته وأفكاره تظل أكثر شهرة وحضوراً من كل تلك الروايات. وحسبنا للتيقن من هذا أن نذكر أن هذا الكاتب الذي ولد ابناً لكاهن فقير، صار لاحقاً حاكماً لكندا وعضواً في مجلس العموم البريطاني، وصديقاً لكبار زعماء العالم. كما أنه كان هو من تحدث منذ العقد الثاني من القرن العشرين، وبعد تجربة أفريقيا الجنوبية، وسلسلة خدمات قدمها للحكومة البريطانية - وغالباً كعضو فاعل في الاستخبارات الإنكليزية -، عن أن «أفريقيا يجب أن تعود إلى الأفارقة»، داعياً إلى إنهاء الاستعمار، كما أنه كان أول من تحدث في عام 1916 عن الصحوة السياسية والروحية للإسلام، التي ستسود في القرن العشرين. كما أسهب في الحديث عن الدور المتزايد في «عالم اليوم للإشاعات والحروب النفسية» وعن استشراء استخدام «الأسلحة الجرثومية والبكتريولوجية»، كما عن صراع الأيديولوجيات طوال الأزمان المقبلة.

> في كل هذا كان جون باكان، فريداً في أفكاره. لكن هذا الأمر من الصعب اكتشافه من خلال فيلم هتشكوك المأخوذ عن أشهر رواياته. فالأمر يحتاج، من ناحية، إلى قراءة الرواية، ولكن من ناحية ثانية إلى قراءة سيرة باكان الذاتية التي لا شك في أن المرء سيصاب بالدهشة إذ يعرف أنها طبعت في 27 طبعة خلال السنوات التي تلت صدور طبعتها الأولى وموت كاتبها، في عام 1940... إذ خلال سنوات الحرب ها هم البريطانيون يقبلون كل هذا الإقبال على قراءة سيرة ذاتية لمؤلف بالكاد يعرفون شيئاً عن حياته وأفكاره وحتى عن رواياته. فهو الذي كان إسكتلندياً، لم تكن له أبداً، شهرة مواطنين كبار له مثل والتر سكوت وآرثر كونان دويل وروبرت لويس ستيفنسون. ومع هذا لا يمكن أحداً أن يجهل «الدرجات التسع والثلاثون». والفضل في هذا لألفريد هتشكوك بالتأكيد. فعمّ تتحدث هذه الرواية؟

> باختصار تتحدث رواية باكان الشهيرة هذه عن شاب غريب يلتقي امرأة غريبة بدورها في صالة رقص... وإذ يجد أنها تبحث عن مأوى لليلتها تلك، يوافق على إيوائها في منزله. غير أنه حين يفيق في صباح اليوم التالي يعثر عليها ميتة في صالون البيت... لكنها فيما تلفظ أنفاسها الأخيرة تسرّ إليه باسم مكان محدد في إسكتلندا. لاحقاً حين تكتشف الجريمة يكون من الطبيعي لرجال الشرطة أن يتهموا الشاب بقتلها، لكنه هو يتمكن من الفرار متوجهاً إلى ذلك المكان الإسكتلندي الذي أشارت إليه المرأة، أملاً في أن يعثر هناك على سر موتها ويؤكد بالتالي براءته. وبالفعل يصل الشاب إلى المكان فإذا به يجده وكراً لجمعية سرية تتألف على الغالب من جماعة جواسيس يعملون لمصلحة الأعداء - سيتحولون في فيلم هتشكوك، إلى مجموعة من العملاء النازيين، لكن تلك حكاية أخرى -. المهم أن هؤلاء الأعداء يكتشفون وجود الشاب فيبدأون بمطاردته، فيما يقوم البوليس بمطاردته من الناحية الأخرى. وخلال هربه، يجد الشاب نفسه في حافلة قطار ويتعرف إلى فتاة تعرض عليه أن تساعده في مسعاه. وهو يصل معها إلى لندن وبالتحديد إلى الصالة التي كان تعرف فيها إلى المرأة الأولى. وفي الصالة، قبل أن يصل رجال الشرطة ملاحقين إياه يتمكن من أن يوقع واحداً من فناني الاستعراض في زلة لسان، تكشف السر كله، ولو على حساب هذا الفنان الذي، إذ يكشف السر من دون أن يدري، يدفع حياته ثمناً لذلك... لكن حياته لن تذهب سدى، إذ أن رجال الشرطة يصلون في اللحظة المناسبة ويلقون القبض على الجواسيس، ما يؤدي إلى تبرئة الشاب صاحبنا ولقائه حبيبته.

> تحت يدي ألفريد هتشكوك صار العمل نضالاً كاشفاً ضد النازيين، ولكن أيضاً احتفالاً بالبراءة - براءة الشاب المتهم - وانتصاراً لها. أما بين يدي جون باكان فالرواية، بالأحرى، رواية عن السلطة والأسرار، والسلطة السرية التي تطارد الناس بقوة بأسها وبقوة سرّيتها لتحقق أهدافاً لا تقل عن السيطرة على المجتمع، من طريق السيطرة على العقول، أكثر مما من طريق السيطرة على الأجساد. والحقيقة أن قضية «السلطة السرية» هذه، كثيراً ما شغلت بال باكان. ومن هنا نجد منظمة «الجواسيس» لديه تتخذ طابع الطائفة التي يشكل أعضاؤها عالماً منظماً وفاعلاً، لا يمكن آليته أن تتحطم إلا عبر المرور بالمخاطر... ولكن قبل ذلك بفضل «بطل بريء» توراتي في نهاية الأمر. وفي إطار هذا البعد التعبيري يكاد باكان يشبه غيره من الكتاب الإنكليز الذين خاضوا دائماً لعبة مزدوجة: من ناحية خدموا أجهزة استخبارات بلدهم، وسياساتها، ومن جهة ثانية عبّروا في كتاباتهم وأفكارهم عن أبعاد من الصعب تصوّر تلاقيها مع تلك السياسات. ويكفينا أن نذكر هنا أسماء مثل غراهام غرين وانطوني بارغس وكيبلنغ ولورانس داريل وأعمالهم، حتى تستبد بنا أسئلة ملحّة حول ما يبدو لنا هنا مزدوجاً. وهنا، في حال باكان، حسبنا أن نتذكر أنه ارتبط خلال سنوات الحرب العالمية الأولى بصداقة مع لورانس العرب، حتى نندفع إلى ملاحظة التشابه بين مواقف الاثنين وأفكارهما. فلورانس أيضاً تحدث عن صحوة الإسلام، سياسياً وروحياً، كذلك كان من الذين نادوا بإنهاء الاستعمار، والاستعمار الإنكليزي خصوصاً، مع أنه - وهذه حال باكان أيضاً - خدم ذلك الاستعمار وبرره في كتاباته وأعماله.

> ولد جون باكان عام 1875 في مدينة بيرت الإسكتلندية، وهو عاش حتى عام 1940، لكنه ظل دائماً مطبوعاً بالعالم الغامض لمسقط رأسه، ويصوّر أناساً يتحركون في شكل دائب، ما يجعلهم يبدون وكأنهم دائماً في مهمات سرية، ما جعله منذ البداية يفترض وجود سلطات سرية، تتحكم بالناس من دون أن يعيّنها أحد لذلك التحكم. وهذه الصور ستظل ترافق باكان طوال حياته، على رغم كل تقلبات تلك الحياة. أما في مجال كتاباته، فهو بدأ الكتابة باكراً، حيث كان أحد أوائل كتاب مطبوعة «الكتاب الأصفر» التي كانت رائجة في ذلك الحين (بدايات القرن العشرين). وهو بعد دراسته في جامعة غلاسكو ثم في جامعة أكسفورد، توجه إلى لندن في عام 1900 ليصبح محامياً متمرناً. ومنذ ذلك الحين، وإذ أرسله لورد ميلنر ليساهم في حرب البوير في جنوب أفريقيا، منظّماً الخدمات الطبية، صارت حياته ككاتب متوازية كحياته عاملاً في الحقل السياسي والعسكري ثم الاستخباراتي العام. وقد رفدته مهماته الكثيرة وسفراته، في أفريقيا والبلقان والشرق الأوسط، على عادة أمثاله من الكتاب الإنكليز، بمواضيع رواياته وقصصه القصيرة التي سيكون أشهرها «النبي ذو المعطف الأخضر» و «طوق القسيس جان» و «ثالث مغامرات السيد كونستانس» و «معسكر الصباح» وغيرها من أعمال أقبل عليها، في حينه، القراء الإنكليز، ولكن من دون أن تضمن له مكانة كبرى وأساسية في عالم الأدب... المكانة التي كان عليه انتظار صدور روايته المفضلة لديه «غابة الساحر» ثم سيرته الذاتية حتى يحصل عليها.

( الحياة اللندنية ) 

 



مواضيع ساخنة اخرى
الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية الإفتاء: حكم شراء الأضحية عن طريق البطاقات الائتمانية
" الصحة " :  97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم " الصحة " : 97 حالة “حصبة” سجلت منذ أيار لدى أشخاص لم يتلقوا المطعوم
الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع الملكة في يوم اللاجىء العالمي : دعونا نتأمل في معاناة الأمهات والرضع
3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار 3341طن خضار وفواكه ترد للسوق المركزي الثلاثاء - اسعار
الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن الدهامشة : الداخلية وفرت كل التسهيلات لقدوم العراقيين للأردن
العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا العلاوين: التوسعة الرابعة ستمكن المصفاة من تكرير 120 ألف برميل نفط يوميا
" الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار " الائتمان العسكري " : تمويل طلبات بقيمة 13 مليون دينار
العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا العيسوي يفتتح وحدة غسيل كلى بالمركز الطبي العسكري بمأدبا
الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي الصحة: مخزون استراتيجي للأمصال المضادة للدغات الأفاعي
بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان بالاسماء : تنقلات واسعة في امانة عمان
عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي عضو في لجنة الاقتصاد النيابية: بطء شديد في تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي
إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن إخلاء طفل من غزة لاستكمال علاجه بالأردن
تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام تسجيل 14 إصابة بالملاريا جميعها إصابات وافدة منذ بداية العام
ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي ملك إسبانيا : الأردن هو حجر الرحى في الاستقرار الإقليمي
الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة الملك : حل الدولتين أساسي لتحقيق السلام والازدهار في المنطقة
الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات الهواري يؤكد أهمية ضبط العدوى لتقليل مدة إقامة المرضى في المستشفيات