ولكنّ أخلاق الرجال تضيق

كل ما يحدث بين الناس من منازعات ومشاكسات قد تصل إلى القتل والنفي من الأرض على صعيد فردي أو جماعي، أو على صعيد الشعوب والأمم، هو نتيجة وثمرة لضيق الخلق، وضيق الصدر وضيق العقل وضيق الأفق، ولو تحلى الأفراد بقليل من سعة الصدر وقليل من الحلم لتم الاستغناء عن كثير من المنازعات وكثير من الدماء، وما يصدق على الأفراد يصدق على الجماعات الصغرى والكبرى، لأن كثيراً منها ما يكون من مستصغر الشرر، وأغلبها من تسعير الخلاف والنفخ فيه من بعض الأشرار الذين يتقنون النفخ في كير الفتنة.
يقول الشاعر العربي: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
ولكن أخلاق الرجال تضيق
وورد في الأثر عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "انكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن تسعونهم بأخلاقكم"، فهذه الحكمة تشكل حلاً لمعظم مشاكل البشر لو وجدت الصدر الواسع والخلق العظيم، ومن هنا فإن كثيراً ممن وصلوا إلى القيادة بشكل طبيعي وعبر الطرق المشروعة وعبر طرق الفرز والاختيار السليم البعيد عن افساد الضمائر وشراء الذمم واتباع أساليب التعبئة والتشويه، يعود اختيارهم الطبيعي إلى خصلتين رئيسيتين هما: "الحلم والأناة" وهذا مصداق حديث نبوي في هذا المعنى عندما قال لأحد الزعماء والقادة: انك فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله، الحلم والأناة.
يروي المؤرخون عن الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان أن عجب من زعامة الأحنف بن قيس لقومه وكيف سوّدوه، وقد كان إذا غضب، غضب معه ستون ألفاً لا يدرون عما غضب، ودهشة معاوية وعجبه من هذا السر مع أن الأحنف كان دميم الخلقة وأعور العين، ولكن الجواب كان واضحاً من أن زعامة الأحنف جاءت بسبب ما كان يتمتع به الرجل من خلق عظيم تجلّى بالحلم والأناة.
حرب البسوس، حرب طويلة ومريرة استمرت سنوات طويلة، بين قبائل العرب أعجزت حكماء العرب وقادتهم عن وقف الاقتتال الدموي الذي أفنى أجيالاً بكاملها، كانت نتيجة لضيق الخلق وانعدام الأفق عند رجل ملك القرار في لحظة ما ولم يملك الحد الأدنى من الاستيعاب، وفقد القدرة على تقدير الظرف، الذي أودى بحياة رجال ونساء وأطفال كثيرين، وينطبق ذلك على حرب داحس والغبراء وغيرها كثير.
كثير من الحروب الظالمة التي وقعت عبر التاريخ ربما كانت بسبب بسيط أو عامل بشري يعود إلى قسط وافر من الغطرسة وشيء من وهج السلطة المصحوب بفقدان الحكمة وضآلة الرأي عند أحدهم، ففي معركة بدر الكبرى وصل الخبر لقريش المستنفرة لاستنقاذ قافلة أبي سفيان التي تعرضت لتهديد فئة من المسلمين الذين طردوا من مكة، بأن القافلة نجت، ولا داعي للحرب كما قال أكثر حكمائها، ولكن شخصاً من زعماء قريش غلب عليه عظم الجهل وغلاظة الطبع أصر على المضي قدماً نحو بدر متذرعاً بما تقول عنهم العرب غداً، ولذلك قال: لنردن ماء بدر ونقيم عليها ثلاثاً، نذبح الجزر ونسقي الخمر، وتغني علينا القيان، ولا تزال العرب تهابنا أبداً، فوقع القوم ضحيّة صاحب الصوت العالي، كما هي العادة.
الأنبياء والمصلحون عبر التاريخ، كانت رسالتهم تتمحور حول عملية بناء الانسان، وتتجلى عملية البناء الانساني باكتمال الخلق، لأن الخلق العظيم ثمرة الحكمة، والحكمة قمة العقل وعصارته، وما الحكمة إلا رويّة في التفكير ونظر في مآلات الأمور وحسن تدبّر للعواقب وبُعد في النظر، ولا يتأتى ذلك إلاّ بمزيد من العلم والتثقيف والتهذيب وسعة الاطلاع واكتساب الخبرة الطويلة والتجارب الواسعة والكثيرة التي تقود إلى صوابية القرار واختيار البديل المناسب، ووضع الأمور في نصابها الصحيح وتقدير الأمور حق قدرها.
قال الله تعالى في القرآن الكريم: "ومن أُوتي الحكمة فقد اوتي خيراً كثيراً".
وقال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: "ما كان الرفق في شيء إلاّ زانه، وما نزع من شيء إلاّ شانه".
( العرب اليوم )