كم نحتاج من صبر تاريخي؟

مع دخول مجتمعات الربيع العربي العام الثالث، تزداد حالة الإرباك السياسي والاستراتيجي في تقدير الموقف بشأن المستقبل في المجتمعات التي تجاوزت العتبة الأولى نحو التغيير، وفي المجتمعات الأخرى التي تصارع من أجل التغيير، وتلك التي تتطلع للتغيير. ما يطرح السؤال الكبير: كم نحتاج من صبر تاريخي لتجاوز هذه المرحلة؟ وبينما تنتشر حالة من الاكتئاب الاجتماعي والسياسي حول ثورات مأزومة، وأخرى قيد الاختطاف، ثمة زحام من المعلومات ومعرفة أقل حول تفسير الأحداث ومستقبلها.
لا يحتاج فهم هذه المرحلة إلى الجلوس في انتظار الوحي السياسي واجتراح المعجزات، فالتقدير الموضوعي يفترض مرحلة انتقالية صعبة ومعقدة، لها خصائصها المتناقضة، وتحتمل سيناريوهات مربكة أيضاً. نلاحظ ذلك في المجتمعات التي لم تتجاوز العتبة الأولى في التغيير، كما هي حال سورية. كما نلاحظ كيف يصوغ كل مجتمع مسارا مختلفا ومتناقضا تفرضه خبرته مع النظام السياسي، ومحددات البيئة الدولية، ومصالح الفاعلين فيها. في المقابل، تتجه المجتمعات التي تجاوزت عتبة التغيير الأولى إلى مسارات أخرى لا تقل ارتباكا وغموضا.
الخبرة العربية في الصبر السياسي طويلة. فالصبر على النظم السياسية التي كرست بحيرات سياسية راكدة منذ عهد الاستقلال، يشير إلى الاستعداد للصبر مرة أخرى لتجاوز المرحلة الانتقالية الصعبة. ولكن المسألة الخطيرة هي أنه كلما طالت المرحلة الانتقالية، زادت احتمالات الردة والانتكاسة السياسية؛ إذ توجد في البيئات الثقافية والاجتماعية العربية المعاصرة ظروف ملائمة لاستعادة الاستبداد مرة أخرى. لذا، يبدو الغائب الكبير في المرحلة الانتقالية أسئلة: كيف ننتقل من المجال السياسي المهيمن على المجال العام، إلى المجالين الاجتماعي والثقافي؟ وكيف نحول المرحلة الانتقالية إلى مدرسة للغرس الثقافي الديمقراطي الجديد؟ وكيف تخلق الديمقراطيات الوليدة الحصانة الذاتية ضد الردة والاحتكار السياسي والاستبداد؟
لقد تطور "علم الانتقال السياسي" خلال العقدين الماضيين بشكل كبير. إذ قدمت تجربة التحول نحو الديمقراطية التي شهدتها دول أوروبا الشرقية خبرة عملية وعلمية غنية في تفسير مرحلة الانتقال السياسي، وتوقع الكثير من ملامح الصراعات والتفاعلات السياسية والاجتماعية، وطبيعة القوى السياسية الفاعلة، وقواعد اللعبة السياسية الجديدة.
وعلى أهمية ما يقدمه "علم الانتقال السياسي"، وخبرته الأوروبية تحديداً، من معرفة، إلا أن التجربة العربية التي لا تكاد تتشكل، من المنتظر أن تقدم إضافة تاريخية نوعية، تفرز منظورا مستقلا في علم الانتقال السياسي، وحيث تُطور التفاعلات الجارية مفاهيمها الخاصة للانتقال السياسي، وتحدد طبيعة القوى الفاعلة، وتعيد صياغة مفهوم القوة من جديد.
الفكرة الأساسية التي نحتاج إلى استيعابها جيداً هذه الأيام تقول إن التجربة العربية الطازجة في الانتقال السياسي التي يتعلم منها العالم اليوم، تحتاج هي إلى أن تستفيد من الخبرات التاريخية الأخرى في تقليل جرعة التشاؤم التي تسود الخطاب الإعلامي العربي بين وقت وآخر، وفي التقليل من حدة الخطاب التفسيري للتحولات الراهنة؛ فما يزال المسار التاريخي للأحداث في معدلاته الطبيعية، وفي إطار المعقول والمقبول السياسي.
عملية الانتقال السياسي، باختلاف مناهجها التاريخية، تحتاج إلى صبر تاريخي، وعقلانية سياسية من نوع خاص في التعامل مع الأحداث وتوقع التحولات؛ إذ تسود المجتمعات المنتقلة ثقافة خاصة، مملوءة بالشك والريبة والاتهامية والحذر. والكل يحتاج أدوات سياسية واجتماعية وإعلامية خاصة في التعامل مع هذه الثقافة الطارئة، وليس مجرد انتظار الوحي من الغيب.
المهم أن تبدأ عملية الانتقال، وأن تتجاوز سريعا عملية الاحتضان والرعاية، وترسي قواعدها الذاتية للعبور، حتى وإن زادت آلامها.
( الغد )