الأذكى منا جميعاً!!

انه ليس من سرق سرّ النار وعوقب بأن تنبش الصقور قبره, وليس من اكتشف البنسلين الذي قال أحد المؤرخين أن اكتشافه لو كان مبكراً لأطال عمر الامبراطورية الرومانية وليس من اكتشف الجاذبية أو اخترع المطبعة، فهؤلاء جميعاً كانوا أذكياء، لأنهم انصرفوا الى تأملاتهم في عزلات عالية ومضاءة ببروق عقولهم. لكن الأذكى منا جميعاً لم يكتشف شيئاً، بل يجهل كل ما اكتشفه الآخرون، ولم يقرأ أو يكتب سطراً بل سخر من كل من يقرأون ويكتبون، لأنه بلغ سناً لا علاقة له بالبلوغ أو الرشد، عندما رأى حقيقة ما يجري حوله بدءاً من نفسه رأى مصائر شهداء ومصلحين وحتى أنبياء فقرر أن يصدق تلك الموعظة من شاعر سخر من أمثاله عندما قال:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فانك أنت الطاعم الكاسي
وهذه المرة الوحيدة التي يكون فيها اسم المفعول اسماً للفاعل، لأن المقصود هو أن هذا الكائن يعيش على ما يجود به الكرام وهو المطعوم المكسوّ وليس العكس.
هذا الذكي هو من صدق ما سمعه من أمه عندما نصحته بأن يبوس فم الكلب اذا اقتضت الحاجة، وهو الذي نادى زوج أمه الذي يضربه ويضرب أمه صباح مساء يا عمي، وهو الذي أعاد تعريف الوطن بأنه مجرد شقة، وليس مهماً على أي خط طول أو عرض أو حتى خط استواء تكون، وهو الذي سخر من كلمة كرامة ومرادفاتها الكثيرة في لغتنا، فهي ليست نباتاً يؤكل أو حذاء يلبس أو بيتاً يسكن.
هذا الذكي نبش قبر أبيه قبل أن يجف طين القبر كي يخرج ابهامه من الكفن ويبصم به على ورقة تحرّم اخوته من الميراث، وهو الذي لم يحفظ حكمة للنفـّري أو أرسطو أو الكواكبي، والحكمة الوحيدة التي حفظها عن ظهر معدة وليس عن ظهر قلب هي عندما تموت الحمير تفرح الكلاب.
ولا بأس ان يسخر ويضحك ملء الفم حتى تبدو أسنانه الأشبه بأسنان فأر من أي شهيد أو مثقف أو ناشط، لأن هؤلاء لا يعرفون مصلحتهم جيداً، وكان عليهم ان يعيشوا مثله كالذباب على الجيف.
هذا الذكي يلعق أي قدم ويمشي على رأسه أو يرقص كالسعدان مقابل أي شيء حتى لو كان زبيبة شرط ألا يراه أحد. فهو بطل أمام زوجته تماماً مثل جحا الذي كلما كان يضربه أحد يسارع الى ضرب امرأته.
هذا الذكي يفكر نفسه استثناء من الموت، ومن الأحزان والفقدان فالموت للآخرين وكذلك الأسى وكل مصائب الزمان، لهذا يذهب الى دور العزاء بحثاً عن حبة تمر أو سيجارة أو وجبة, لا بأس لديه أن تكون من لحم الميت ذاته والمرق من دمه.
قد نصادف الأذكى منا جميعاً في شارع أو مقهى أو على اشارة مرور، ورغم أننا لم نختبر ذكاءه في أحجية أو معادلة أو رأي سياسي إلا أن عينيه تعلنان عنه، فهما ساخرتان، بهما قليل من المكر وكثير من القذى، فلو حدث زلزال تحت قدميه لا يفكر إلا بالنجاة بمفرده كي ينهب ما تبقى بين الأطلال والخرائب.
هذا الأذكى منا جميعاً يصاب الثعلب إذا رآه بالغثيان ويترك له الفريسة حتى لو كان جائعاً؟ ( الدستور )