" فـي ذكــرى الشـــيخ الـزّكــي "
الحمد لله وكفا وسلام الله على عباده الذين اصطفى ، أما بعد : -
فَـقـَدْ فقد الأردن عامة ، وبلدة أيدون خاصة ، عالماً من علمائها ، ومربياً فاضلاً من فضلائها ، وشاعراً من شعرائها ، وأديباً من أٌدبائها ..
ففي أيدون المولد والنشأة والوفاة .. ، أيدون المجد والتاريخ ، قرية أردنية غارقة في القِـدم ، تقع جنوب مدينة إربد ، على ارتفاع 655 متر عن سطح البحر ، ينسب إليها علماء أفذاذ ، وشخصيات عظام ، أمثال الشيخ ( محمد بن يحيى الشيخ نجم الدين الأيدوني الدمشقي الشافعي من علماء القرن العاشر الهجري ، كان خطيباً في جوامع دمشق ، توفي سنة 985 هجري ، كما ينسب إليها الشيخ ( احمد بن يحيى محي الدين الأيدوني الشافعي ، الشيخ الإمام المقرئ المجّود ، احد المنعم عليهم بحسن الصوت وجودة القراءات ، وحسن التأدية ، كان حسن القراءة يأخذ بمجتمع القلوب ، درس الفقه و التفسير و التلاوة على علمائها بدمشق ، تعلم الفارسية ، ودرس بالأموي ، وولي إمامته ، توفي سنة 978 هجري ، كما ينسب إليها ( الشيخ أحمد بن أحمد بن محمد بن تقي الدين الايدوني الشافعي ) ، أخذ الفقه عن علمائه بدمشق ، كان عالما عاملا دينّا خاشعا لله ، وكان الناس يقصدون إمامته لحسن صوته ، توفي سنة 998 هجري في دمشق ... الخ
ففي التاسع والعشرين من شباط 2012 ميلادي ، فقدت بلدة أيدون ( الشيخ زكي محمود فياض الخصاونه ) ، ليضاف إلى قائمة من سبقوه من العلماء العظام .. ، ولد الفقيد في بلدة أيدون 1937 ميلادي ، وعمل في حقل التربية والتعليم ، معلماً و مربياً فاضلاً ، شهد القاصي والداني فضله و عطائه ، ومن ثم عمل إماماً و خطيباً في مسجد أيدون الكبير .. ، إلى أن أقعده المرض ثلاثة عشر عاماً ، كان خلالها صابرا محتسبا إلى أن وافاه الأجل ، ولقد شيع جثمانه الطاهر عصر الخميس في الأول من آذار 2012 ميلادي في جنازةٍ مهيبة من مسجد أيدون الكبير إلى مقبرة البلدة ، والفقيد رحمه الله له من إسمه نصيب ، فهو ( زكي ) الإسم ، زكي الحسب و النسب ، زكي السيرة والسريرة ، ولا نزكي على الله أحد ، مربٍّ فاضل ، وكاتب و شاعر ، و أديب و خطيب . وهو ابن ( محمود ) ، فالكل يحمده و يثني عليه بخير ، فمن أشعاره رحمه الله قوله :
يا صاحبي إن في الإنسان جارحـةً فيها يرى الخير و الآثام تعويدا
فالقــلب ما دمت بالإيمـــــان تعمره تحيا زمــانك مشكورا ومحمودا
وجده ( فياض ) ، فقد أجاد وأفاد ، و أعطى فأجزل العطاء ، و فاض بالخير والحكمة ، فعلِم وعلـّم ، وترك أثر طيب في حياته و بعد مماته .. ، ترك ما يزيد عن عشرة مؤلفات مطبوعة ومنشوره ، ومثلها أو يزيد من المؤلفات المخطوطة ، والتي نرجو في قابل الأيام أن تجد طريقها إلى الطباعة والنشر لتعم بها الفائدة ، ولكي تكون في ميزان حسنات الفقيد رحمه الله ، ففي الحديث يقول المصطفى عليه السلام : - ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) .
من مؤلفاته :-
- من ظلال القضية / دار عمّار - عمان/ الأردن 1998 م.
- معراج المؤمن / دار عمّار - عمان/ الأردن 1990 م.
- ألوان / دار الإمام النووي - عمان/ الأردن 1990 م.
- شيء من الحكمة / دار الإمام النووي - عمان/ الأردن 1992م. (يقع في ( 246 ) صفحة, وسنأتي على بيان وتعريف بهذا الكتاب إن شاء الله) .
- بين سطور هيكل في حرب الخليج/ دار قدسية- اربد/ الأردن 1992م.
- قلب القرآن/ دار الإمام النووي- عمان/ الأردن 1993م.
- معالي الأخلاق/ دار الإمام النووي- عمان/ الأردن 1998م.
ومن مخطوطاته:-
- شيء عن هذا الإنسان
- عروس القران
- نداءات قرآنية
- شيء عن التقوى والمتقين
- من دفتر الغربة
- المنادي المؤمن
- شيء عن الضحك
تعريف بكتاب (شيء من الحكمة) للمؤلف رحمه الله:-
يقول في مقدمة كتابه ، بعد حمد الله والثناء عليه ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد : فالكتاب والسنة هما سبيل النجاة ، ومصدر القوة والخير في كل زمان وفي كل مكان ، فالكتاب هو كلام الله ، وهو أصل التشريع الأول ، والدستور الجامع لخير الدنيا والآخرة .. ، أما السنة فهي الأصل الثاني للتشريع ، إنها شمس الحكمة المحمدية ، التي من أنوارها صدرت أقواله وأفعاله وتقريراته عليه السلام ..، أجل .. ففي الانشغال بالحديث النبوي عّز الدنيا وسعادة الآخرة .. ، فيه يعرف الحلال من الحرام ، وبه تكون طاعة الله على أكمل الوجوه ..، وأحسن الأدب ما كان مع الله ، وذلك بشكر الله على مننه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى ..، وبتفويض الأمر إليه ، والتوكل عليه ، والتضرع إليه بطيب القول وصالح العمل ، وبتقوى الله وطاعته وعدم معصيته ، وحسن الظن به ، والتزام الحياء منه .. ، أجل ، فبقدر التمسك بهذا كله .. تعلو درجة الإنسان ويرتفع مقامه ، وتسمو مكانته ، وتعظم كرامته فيصبح من أهل ولاية الله ورعايته ، ومنزل نعمته ، وهذا أقصى ما يطلبه الإنسان ويتمناه طول الحياة .
ويكون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بطاعته واقتفاء أثره ، وترسم خطاه في جميع مسالك الدنيا والدين ، ويكون بحبه وتوقيره وتعظيمه ، وإجلاله وتصديقه ، قال بعض السلف : من أمّرَ السنة على نفسه قولا و فعلا نطق بالحكمة .
فالحكمة : هي العلم النافع المصحوب بالعمل ، والمراد بها السنة المطهرة ، والحكمة تزيد الشريف شرفاً ، وترفع العبد المملوك حتى تجلسه مجلس الملوك ... وأن سعادة المرء في كلتا حياتيه .. موقوفة على تأديب نفسه ..، بالإيمان والعمل الصالح ..، ويكون ذلك بالمجاهدة والمحاسبة وفعل الخيرات والطاعات ، وذلك من خلال التوبة والمراقبة في السر والعلانية لله تعالى ..
ويكون الأدب كذلك مع الخَلق ، بحسن الخُلق وحُسن المعاملة وتأدية الحقوق والقيام بالواجبات طاعةً لله ورسوله ، فإذا أحبْ أحبَ لله ولرسوله ، وإذا أبغضْ أبغضَ لله ولرسوله ، وإذا أعطى لله ولرسوله ، وإذا منعْ منعَ لله ولرسوله ، وبذلك يكون قد استكملَ الإيمان ..فيتخذ له أخزاناً أصدقاء في الله ، يخصم بمزيد الحب والوداد ..،أجل ..، فكل خلائق المسلم الفاضلة ..، إنما هي مستقاة من ينابيع الحكمة المحمّدية ، أو مستوحاة من فيوضات الرحمة الإلهية ، لأنه موصول بالله ، ولسانه لا يفتأ رطباً بذكر الله ..، وقلبه لا يبرح عاكفاً على حبه .إنّ سرحَ في ملكوت النظر .. جني العِبر ...
إن الكلمة الصادقة المخلصة ، شعلة تنير ظلمة الطريق ، تكشف زيف المضللين التاجرين بالحقيقة الزائفة الذين يبيعون دينهم بدنياهم ، وبدنيا غيرهم ..، فاحرص أيها الأخ الكريم على هذه الكلمة ..، ولتكن نابعة من روافد الحق ، تزرع من خلالها بذور الخير ، وتنمي بها طاقات القوة والإبداع ، حتى تظل في عداد ما ينفع الناس ، ويكتب لها البقاء والنماء ، قال تعالى : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُفِيالْأَرْضِ ..)الرعد/17
وبعد ..، فهذه فصول جمعتها وألـّفتُ بينها ، وذلك بعد المطالعة والبحث والاستنتاج في العشرات من الكتب القّيمة ، جزى الله أصحابها خير الجزاء ، فكان هذا الكتاب الذي أسميته (شيء من الحكمة) ، وأرجو أن يكون فيه شيء من الحكمة ، أضعه بين يدي القارئ الكريم ، شمعة تنير بعض معالم الطريق .. ، وقد قيل : ( ما أهدى مسلم لأخيه هديه أفضل من كلمة حكمة ، يزيده بها هدى ، أو يرده بها عن ردى ) .
والله تعالى أسأل أن يلهمنا جميعاً الهدى والإرشاد ..، راجياً منه أن يجعلَ عملي كله خالصاً لوجهـِهِ الكريم ، ويبقيه لي ذخراً يوم الدين ، وأرجو ممن قرأ في هذا الكتاب فاستفاد أن يخصني بدعوة صالحة تنفعني يوم لا ينفع لا مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم ..
مقتطفات من فصول الكتاب :-
1 – في الأدب : تكلم عن أدب المصطفى عليه السلام ..، وعن أدب الخليل عليه السلام ..، وعن وصية الأُم لإبنتها قبل زفافها ..، ثم قال : أجل فالإنسان الكاتب يحيا ، ثم يموت كباقي خلق الله ، أما كتابته بيده فاتها تبقى من بعده ، والكتابة منها ما ينفع ، ومنها ما يضر ..فاحرص أيها الأخ الكاتب على أن تكتب شيئا نافعاً ، يسرّك في القيامة أن تراه في كفـّة حسناتك يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم .
2 – في القلب : إن الله قد غرسَ في الإنسان عقلاً وقلباً ، أما الأول فلـِكي يفكر به ، فيؤمن بما يجب الإيمان به ، وأما الثاني فلِـكي يستعمله في محبة من أمرَ الله بمحبته ، وبغض من أمر ببغضه ، وإذا لم يشغل القلب بمحبة الله ورسوله والصالحين من عباده ، فسيمتلئ بمحبة الشهوات والأهواء والمُحرمات ..، وقد خلق الله اللسان واحداً والقلب واحداً ، إشارة إلى انه لا يـُذْكر بالواحد الا الواحد ، ولا يكون في الواحد إلا الواحد ..، ويتابع الشيخ رحمه الله القول – الدنيا هي دار الغرور ، وكل حيٍ في سفر إلى دار القرار وان طال لبثه في هذه الدار ، ولمّا كانت الدنيا سفراً وكنا فيها مسافرين ..، فلا بد من التزود لهذا السفر الطويل ، ويقول رحمه الله من نظمه :
يا صاحبي إنَّ في الإنسان جـَارِحـَةً فيها يرى الخير والآثام تعويدا
فالقلبُ مادُمْتَ بالإيمــان تـَعْـمُــرُهُ تحيا زَمانـَك مشكورا ومحمودا
3 – في الحب : الحب في الله هذا هو الحب الحقيقي ، لا لمصلحة ولا منفعة ، انما هو لوجه الله .
4 – في التقوى : يقول من نظمه رحمه الله :
الرب ربي مع التقوى وصاحبها فخيرنا هو عند الله أتقانا .
5 – في العقل : فالعاقل هو الذي يكون على ثقة عظيمة بالله عز وجل ، فيرضى بالله ، وبكل ما يأتي من الله ، ويستسلم لقضاء الله ، لأنه يعرف تمام المعرفة بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله ، وهذا من كمال العقل .
6 – في الدين :أجل .. فالدين أمر ضروري للإنسان لأنه لا غنى للإنسان عن دين ينير عقله بالعلم والعرفان ..، ويهدي قلبه باليقين والإيمان ...، والدين الحق واحد .. منذ الأزل وحتى قيام الساعة ..، ألا وهو الإسلام ..، فإذا وظف المسؤول دنياه لدين وسود دينه على دنياه فقد أفلح وفاز ، وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ..، وقوام هذا الدين في كلمة الإخلاص .. كلمة التوحيد (لا اله إلا الله ) وهي مفتاح الجنة ..
7 – في التوحيد : مفتاح الجنة هو شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. , ومعناها أن الحاكمية لله وحده .., من قام فيها .., وترجم قوله إلى عمل .., فجعل الحاكمية لله في كافة الأمور .. استحق ما كتب الله له من الحسنات , وكان جديراً أن يمحو عنه السيئات .., ونال الجائزة الكبرى .. الجنة .. ومن دخل الجنة فقد فاز .., فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز .
ويقول الشيخ رحمة الله .., وأنا أشهد بما شهد الله به .., وأستودع الله هذه الشهادة , وهي لي عند الله وديعة..
8- في العلم : يقول الشيخ رحمه الله : فعليك أيها الأخ الكريم بالعلم ومدارسة العلم ومجالسة العلماء , ففي العلم الشرف والسؤدد والغنى والجاه وهو الفضل من الله , يتفضل به على من يشاء من عباده .., ويقول رحمه الله من نظمه :
العلم نور..رب زِدْني علــما فالعلم دوماً في المقام الأسْـمَـى
العلم نور يـُهتدى بشــعاعـه نـور على نـور .. بديـن تـَـمـَّـا
يا من قـَضَى للعلم كل حياته بعقيدة التوحيد حُـزْتَ النـَّجْـمـا
فـَيْـضٌ وإشْراقٌ وإخـْصابٌ به فجر.. وأشرق في الحنايا حِـلْما
أجل ..فأخو العلم هو الحِلم
9- في الحـِلْم : أجل .. فالحلم من حسن الخلق ، وحسن الخلق مما يدخل الجنة ..
10 – في الصبر : أجل .. فالصبر على الأذى هو جهاد النفس الأكبر ، وله من جزيل الثواب ، ثواب الصابرين ، اللهم اجعلنا من الصابرين ..
11 – في الإستغفار : إعلم أيها الأخ الكريم أن لكل داء دواء ..، وأن دواء الذنوب الإستغفار ..، وأفضل أنواع الإستغفار أن يبدأ العبد بالثناء على ربه ..، ثم يثني بالإعتراف بذنبه ، ثم يسأل الله المغفرة ..، ومن أسباب المغفرة التوحيد ..
12 – في المروءة : ومن المروءة فِعل المعروف ..، وإذا وجدت الحياءَ وجدت المروءة ..، فالإسلام والتقوى والحياء والكرم .. كل هذا من دواعي المروءة ومن مستلزمات الإيمان ..، والإيمان نصفان : نصف صبر ..، ونصف شكر ..، فعليك بالحمد والشكر .
13 – في الحمد والشكر :كل خير تعمله لله عز وجل شكرْ ..، وأفضل الشكر الحمدْ ..، فلا بد من الشكران والامتنان لله تعالى على نعمه التي لا تعد ولا تحصى ..، فكم نعمة ما هي إلا إبتلاء وإمتحان وإختبار ..، ومن بعد ذلك يتم تسجيل النتيجة (هَذَا مِنفَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) النمل / 40 ... فالحمد لله من قبلُ ومن بعدْ ..، وآخر كلمة يتذكرها أهل الجنة الحمد لله رب العالمين .
14 – في الحكمة : القرآن هو إمام كل حكمة وعلم ، والحكمة تزيد الشريف شرفاً ، وترفع العبد المملوك حتى تضعه موضع الملوك ، وهي ضالة المؤمن ، حيثما وجدها إلتقطها ، بل هو أولى بها من غيره ..، والحكمة هي الفصل بين الحق والباطل ..، وهذا الأمر لا يأتي إلا عن علم بالكتاب والسنة ..، وحتى تكون جليّة واضحة لابد أن تضع الشيء الصحيح في مكانه الصحيح ، فالحكمة لا تكون حكمة إلا إذا كانت مقيدة ومنضبطة ضمن حدود الشريعة ومبادئها وأخلاقها ..، فالحكمة تقتضي الصدق في القول والعمل ..، وهذا يقتضي التعامل مع الناس ..
15 – في الناس : قيل هم أربعة والأعمال ستة ..، وقيل هم رجلان : بّر تقي ..، وفاجر شقي ..، وقيل هم ثمانية من جلس معهم زاده الله ثمانية أشياء ..الخ . يقول الشيخ رحمه الله : فكن يا أخي الكريم من الأسخياء الاتقياء .. تنل السيادة في الدنيا والآخرة ..، ويصنف الناس في التدريب العسكري على طول الأجسام ..، فإذا رجعوا إلى وظائفهم صُـنفوا على المراتب والدرجات ..، فإذا جاءت المعركة صُنفوا على الإقدام والشجاعة ..، فإن كان دفعُ الضرائب صُنفوا على المال والأملاك . هذا في الدنيا ..، أما في يوم العرض .. يوم الإمتحان الأكبر ، فيكون الناس قسمين لا ثالث لهما : ناجحين في الامتحان ، يمشون فرحين مستبشرين إلى الجنة ..، وساقطين في جهنم يجللهم الخزي والعار ..، أعاذنا الله وإياكم من النار ، ومما يقرب إليها من قول أو عمل ..، ونسأل رضاه والجنة ..، وقد خاطب المولى سبحانه هذه الأمة بقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وهذه الخيرية لا تتم إلا بأمور (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران / 110 .... لذا فيترتب على كل منا أن يلتزم بهذه الأمور حتى نسلم من العقاب ..
16 – في الإخوان : ومن الأمور التي تقوى علاقة الآخرة ما أوجزه سعيد بن العاص حيث قال : ( لجليسي عليّ ثلاث : إذا دنا رَحََّبْتُ به ، وإذا جلس وسَّعْتُ له ،و إذا حَدَّثَ أقـْبَلْتُ عليه ). فاحرص عليها أيها الأخ الكريم جزاك الله خير الجزاء ..، وقد حببّ إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤاخاة أهل الصلاح ..، وكرّه الينا مجالسة أهل السوء ...، فيا أيها الأخ الكريم تخيّر أصحابك وإخوانك ..، فإن رأيتَ منهم الخير اقتديتَ بهم ، وان رأيتَ غير ذلك نصحتـَهم ، فالأخ مرآة أخيه ..، نسأل الله أن يرزقنا صحبة الأخيار ، وأن يجنبنا صحبة الأشرار ، حتى تكون بصحبة الأخيار في دار القرار ، ولا نصطلي بصحبة الأشرار لهب النار ، يا عزيز يا غفار ..، واحرص أيها الأخ الكريم أن تكون كريماً ..،وعليك أن تجعل الدين مقياساً ، ورضى الله ميزاناً، فمن كان يفيدك في دينك فاسْتمسِك به ..
17 – في النساء : وشقائق الرجال النساء ..، والمجتمع المسلم يقوم على التعاون والتكافل بين الرجل والمرأة ..، وقد نالت المرأة من الرفعة في حمى الإسلام الشيء الكثير ..، فطوبى لمن أطاعت زوجها ما أطاع الله ، وكانت عوناً له في دينه ودنياه ، ويا حبذا لو اكتفت المرأة بما خـُلِقـَتْ له ..، حقاً فالمرأة الصالحة .. هي كنز الكنوز ..، معها تحلو الحياة ويطيب العيش وترفرف السعادة ..
18 – في الشيطان : الشيطان عدّو الإنسان ، وقد إلتزم أموراً سبعة في العداوة ..، فمن انقاد إلى اللعين ، فهو إلى خسران مبين ، أعادنا الله من ومن مداخله ومنها الحرص والبخل والعجب والكبر والكفر والبدعة والخمر ، فالخمرة تفسد الأذهان ، وهي مفتاح كل شر ، يقول الشيخ رحمه الله من نظمه :
لعمريَ لو عُمـِّرْتُ مليون حجة فإني وَرَبي.. لا أميل إلى الخمر
19 – في الحسد : أول ذنب عُصي الله به في السماء ..، وأول ذنب عُصي الله به في الأرض ؛ فأما الذي في السماء فحسد إبليس لآدم ، وأمّا الذي في الأرض فحسدُ قابيل هابيل ..، كفانا الله واياكم شر حاسد اذا حسد ، والحسد من رذائل النفس .
20 – في النفس : أجل .. فأعدى عدوك نفسك التي بين جبينك ..، فأحرص أيها الأخ الكريم على عمل الخير والابتعاد عن الشًر ، وتـَحَرَّ أسباب السعادة ، وابتعد عن أسباب الشقاوة حتى تحظى بالجنة دار القرار ، فالنفس مهما طالت رحلتها الدنيوية ..، لابد من رحيلها عن هذه الدنيا الفانية وعن هذه الدار ..، دار البلاء والابتلاء بشتى ألوان الخير والشر ..، أجل ،فإنها بعد هذا وذاك كله ترجع إلى الله ، لتستوفي الأجر والثواب ، أو لِتـَلْـقَي الوزر والعذاب يوم القيامة (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً) آل عمران / 145 . وصدق الله العظيم إذ يقول ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) آل عمران / 185 .. نعم إن دار القرار هي الجنة والنار ..، وقد نظم الشيخ رحمه الله قائلا :
الدار داران : دار تقتضي عَمَلاً نـَلْـقـَــى بها جَنـَّـةً طابَـتْ عَـنـاقيدا
أَمَّـا التي فـَسَدَتْ خابَـتْ مَسالِكُها نـَلْقـَي بها في جحيم النار تصفيدا
وذلك يكون في يوم لابد منه ..، انه يوم العرض والحساب ..، لتلقى كل نفس مالها .. وما عليها ..، فيا أيها الأخ الكريم .. عليك بالتوبة إلى الله من كل ذنب ومعصية ، فإن التوبة تغسل الحوبة ..، أجل إنها نفس واحدة ، ولكن لها صفات متغايرة ، وان باب التوبة لم يغلق بعد ، وقد تفضل الله علينا بالقبول والرضوان اذا خطونا إليه ، ورفعنا الأمر بين يديه ، راجين عفوه وغفرانه .
21 – في الطب : لابد للنفس والجسم من الطب ، والتداوي بالقرآن ثابت بالكتاب والسنة ، وفي كتاب الله الشفاء والسعادة ..
22 – في السعادة : والدواء الشافي والعلاج الناجح الذي يوفر لنا السعادة هو الإيمان ..، فالإنسان إذا ما عمر قلبه بالإيمان بالله .وملأ قلبه بالحب لخلق الله تربع على قمة من قمم السعادة ، والسعادة في ايدينا ..، فيا أيها الكريم ..أنت سعيد لكنك لا تدري ، سعيد ان عرفتَ نفسك وانتفعتَ بالمخزون من قواها ، فمنبع السعادة فيك ومنك ..، فأنت سعيد إن كانت أفكارك دائما مع الله ، فشكرت كل نعمة ، وصبرت على كل بلية ، فكنت رابحاً في الحالين ..، ناجحا في الحياتين ، فالمؤمن في كلتا حالتيه إلى خير في السراء والضراء ..، في الأولى إن شكر ..، وفي الثانية ان صبر ..، وفي كـُلّ ٍ خير ، وهذا قمة من قمم السعادة .. أجل ، فالإنسان إذا ما حصل على الأمن والصحة والغنى والشباب فقد حصل له من السعادات الشيء الكثير ، إذا ما تـَوَّجَ كل هذه الأمور بتقوى الله العظيم .. تلك التي هي سِرُّ أسرار السعادة ..، إن واسطة العقد هي اكبر لؤلؤة أو جوهرة في العقد النظيم .. فبالوسطية الخير كل الخير ..، والحياة الدنيا التي نراها طويلة عريضة ، ما هي إلا ساعة ..، وعلينا أن نحيا هذه الساعة في صلاح وطاعة ، حتى نحظى بالرضا والرضوان ، ونعوم في عبور السعادة ..، والمنهاج الحق في ذلك كله ( قل آمنت بالله ... ثم استقم ) ، والإستقامة هي عين الكرامة ..، وتعني لزوم الطاعة لله ..، وهي عين السعادة.
23 – في المال : هناك شيء قد يكون نعمه ، فيه السعادة ..، وقد يكون نقمة .. فيه التعاسة ... ألا وهو المال ..، فلا بد للمرء من أن يكسب المال من حـِلـِّه وأن يضعه في حقه ، وأن لا يشغله عن عبادة ربه ، فإذا كان الأمر كذلك فهنيئاً للمرء بماله ، الذي سيكون نعمة من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى ..، وقد نظم الشيخ رحمه الله في هذا الأمر شعراً فقال :
المال مالان : مال أنتَ مالـِكُـهُ وآخر قد غدا للناس معبودا
واعلم أيها الأخ الكريم أن خير مال الإنسان ما اكتسبه بـِكـَدِّ يمينه ولقاء ما يقدمه من الخدمة لمجتمعه وبني جنسه ..، وشّر المال ما أصابه الإنسان وهو مستلق على ظهره دون أن يرى أي تعب في سبيله ، ودون أن يبذل أي فائدة للمجتمع في مقابله ..، وأحرص أيها الأخ الكريم أن يكون عملك صالحاً ، فهو الصاحب والرفيق والأنيس يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ..
وقد حث الله على الإنفاق في دروب الخير ، ابتغاء وجه الله ومرضاته ..، فالمال بالإنفاق يزكو وينمو ..،اللهم لك الملك كله ، ولك الحمد كله ، وإليك يرجع الأمر كله ، أسألك من الخير كله ، وأعوذ بك من الشر كله ..
24 – في الدعاء : الدعاء مخ العبادة ، فعلينا بالدعاء وعلى الله الإجابة ..، فأدعو الله وأنت موفق بالإجابة ..، ترجوها من الله الذي لا يرد سائله ، وما الاستغراق في التضرع والدعاء وبسط الكف إلى السماء ، ما هو الا وظيفة من وظائف العبودية التي خـُلِقَ من أجلها الإنسان ..، والدعاء يستلزم العمل ..، فالدعاء بلا عمل كالقوس بلا وتر ..، واعلم ايها الأخ الكريم أن الدعاء توجه من العبد إلى ربه طلبا للرحمه ، ورغبة في العون والتوفيق في شؤون الدنيا والآخرة ، وهو مفتاح النعم كلها ، وباب الخير كله ، وفيه تحقيق لطمأنينة القلوب ..، وصفاء النفوس ، وشعورنا بالرضى والأمن والسكينة ، وهو عنوان الشكر وإقرار بالعبودية لله وحده ..، وهو عنوان صلة العبد المؤمن بربه في ساعات الشدة وفي ساعات الرخاء ..، ويختم الشيخ رحمه الله بالقول : ( اللهم إنا نعوذ بوجهك الكريم من النار ، ومن كل عمل يقرب إلى النار ، واجعلنا من عبادك المتقين الأبرار ، اللهم اغفر لنا وارحمنا وأرض عنا وتقبل منا ، وأدخلنا الجنة ، ونجنا من النار ، وأصلح لنا شأننا كله ، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من كل شر والفوز بالجنة والنجاة من النار ، اللهم سلمنا ولا تسلمنا وامنحنا ولا تمتحنا ، اللهم اجعلنا في ضمانك وأمانك وإحسانك ، اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارض عنا )..
25 – في القرآن : هو الكتاب الشامل لأعظم تشريع رباني ..، تـَكَـفـَّلَ منزله لمن اخذ به أن يسعد في الحياتين ..، وتوعد من اعرض عنه فلم يأخذ به بالشقاوة في الدارين ..، لقد أفلح و نجا و فاز من اسلم لله ..، يا الله ، ما أكرم الله ، ما أروع عطاء الله !! منه البيان والتبيان والتبيين ، والهدى والهداية والتوبة ..، ميزانه جدّ دقيق ..، الحسنة عنده أضعاف مضاعفة ..، إن خـَلـْقَ الإنسان ما كان عبثاً ، ولابد من الرجوع إلى الله .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه أجمعين .
تلك هي مقتطفات من فصول كتاب (شيء من الحكمة) لمؤلفه الشيخ زكي محمود خصاونه ، رحمه الله رحمة واسعة ، والذي فارق هذه الدنيا الفانية ، بعد حياة حافلة بالعطاء ، فترك كنوز معرفة لا تقدّر بثمن فيها حِكَم وأحكام ودروس وعبر لأولى النهي والأحلام ، فجزاه الله خير الجزاء ، سائلا المولى سبحانه أن يكون من الواردين على حوض سيد الأنبياء ، ومن الشاربين من يده الشريفة شربة لا يظمأ بعدها أبداً ..، رحمك الله يا شيخنا الفاضل رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته آمين ، وجعل أعمالك خالصة لوجه الله الكريم ..
وفي الختام أُهيب بطلب العلم الشرعي دراسة كتب الشيخ رحمه الله وتنقيحها وتخريج أحاديثها ..، لمزيد الفائدة ، هذا وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله و صحبه أجمعين ، الحمد لله رب العالمين.
* إمام مسجد أيدون الغربي