«لوحة باريس» لمرسييه: الشعب ومجتمعه عشيّة التغيّـرات الكبرى

> والمرء لا يحتاج، اليوم، الى تقليب ارشيفات صحافة ذلك الزمن، أو محاولة العثور على أعداد قديمة من صحف كانت تصدر في ذلك الحين للتيقن من هذا. بل يكفيه أن يطلع على كتاب، هو قمة انجازات مرسييه في هذا المجال، أصدره في 12 جزءاً ضخماً بين العام 1781 والعام 1788، بعنوان: «لوحة باريس». والحال ان ذلك الاطلاع يكشف لنا ان مرسييه كان يرى ان المدينة «ليست مجرد شوارع ومعابد وأبنية وصروح» على رغم أهمية هذا كله لتكوين المدينة. المدينة بالنسبة الى «لوحة باريس» هي «أهلها وأخلاق هؤلاء الأهل وعاداتهم... ناهيك بالأفكار المهيمنة في لحظة معينة، ووضعية الذهنيات». ومرسييه للتعبير عن هذا لم يكن من الذين يكتبون في مجال التنظير... بل كان عملياً - كما يجدر «بالصحافي الحقيقي أن يكون» كما قال عنه ديني ديدرو في واحدة من رسائله -. ومن هنا نراه يطبّق هذه «النظرية» في كل حرف يكتبه، ما جعل بعض المقالات والتحقيقات التي وصف فيها الحياة الباريسية «ذات فعالية نادرة» و «ذات قدرة على قول تاريخ الشعب والمدينة والعلاقة بين الاثنين لا تعادلها مقدرة أي نصوص أخرى». ولعل هذا ما جعل معظم كتّاب القرن التاسع عشر من الذين كتبوا روايات مسلسلة - بخاصة - تدور أحداثها في باريس يستعينون بكتابات مرسييه، وخصوصاً تلك التي جُمعت في أجزاء هذا الكتاب الثري.
> إذاً بالنسبة الى مرسييه، لا شك في ان تاريخ باريس هو تاريخ الباريسيين أنفسهم، بل حتى تاريخ كل السكان الذين يقطنون باريس في شكل او آخر. وهؤلاء وأولئك يظهرون في كل نصّ كتبه، وحتى حين نراه يكتب، مثلاً، عن البلاط. إذ ها هو يقول في واحد من تحقيقاته الشهيرة «ان البلاط متنبه تنبّهاً ثرّاً الى أهمية الناس... ومن هنا نراه يصغي في شكل جيد الى ما يقوله الباريسيون. الذين يُطلَق عليهم اسم الضفادع! وهكذا مثلاً، ها هم الأمراء في كل تصرف يبدونه أو قول يتفوهون به يطرحون على أنفسهم سؤالاً أساسياً: ترى ما الذي سيكون عليه رأي الضفادع ازاء هذا الأمر أو ذاك». ويضيف مرسييه في هذا المجال قائلاً، بحس خفي من السخرية ولكن من الوعي أيضاً: «وحين يصفّق الضفادع أو يخبطون يداً بيد لدى مرأى واحد من هؤلاء الأمراء، أو استعراض واحد من الاستعراضات... لا يتردد الأمراء عن ابداء رضاهم». والحال أن هذا الكلام الذي يكتبه مرسييه كشاهد عيان عليه، يتناقض تماماً مع كل التأكيدات المتحذلقة التي كانت تقول إن الطبقة الحاكمة في فرنسا قبل الثورة لم تكن تبالي بالشعب وآرائه. ان مرسييه هنا، يؤكد ان الحكم الاوتوقراطي والملكي، كان مهتماً برأي الناس، ويقيس مواقفه تبعاً لذلك الرأي... ولسوف تثبت الأحداث لاحقاً ان ذلك النوع من الأنظمة كان أكثر تعبيراً عن ذلك الرأي العام، من الأنظمة الثورية، ربما فيها ذلك النظام الذي انبثق من الثورة الفرنسية. طبعاً لا يعني هذا ان مرسييه كان من أصحاب الحنين الى العصور السالفة. فقط كان الرجل مرآة لعصره، صوّر في كتاباته الدسمة والواقعية والمتميز بقدرة مدهشة على الملاحظة، أحداث العصر والذهنيات التي كانت مهيمنة في شكل حقيقي على ذلك العصر وفي ذلك المكان بالتحديد.
> بعد ذلك وفي موقع آخر من الكتاب، يبدو فيه النصّ أكثر تماسّاً مع الشارع نفسه، يكتب مرسييه، في واحد من تحقيقاته، ليتناول منطقة فوبورغ سان مارسيل، التي كانت واحدة من أكثر المناطق شعبية وفقراً في باريس في ذلك الحين: «ان هذا الحيّ هو الحيّ الباريسيّ الذي يسكن فيه الباريسيون الفقراء والميالون الى أقصى درجات الفوضى. وسكان هذا الحي هم أنفسهم الذين يملأون أيام الآحاد، شارع فوجيرار بكاباريهاته العديدة... وذلك لأن على المرء أن يعيش حياة فسق لكي يشعر بأنه يعيش... ولو يوماً واحداً في الأسبوع. وسكان سان مارسيل، يضيف مرسيييه، هم أنفسهم الذين يملأون «صالون الحثالة» الشهير... حيث يرقص من دون هوادة وحفاة الأقدام، رجالٌ ونساءٌ، يحدث منهم خلال ساعة من الرقص أن يثيروا من الغبار في الجو ما يجعل رؤية أي شيء أمراً متعذراً». وحين يتحدث مرسييه عن «أوتيل - ديو» المستشفى الباريسي الشهير في ذلك الحين، لا يمضغ كلماته ولا يساير أحداً بل يقول في كل وضوح: «إن هذا المستشفى مملوء بكل ما من شأنه أن يجعله ملوثاً بالطاعون كل الوقت». وفي السياق نفسه يؤكد لنا مرسييه هنا تأكيداً غريباً يتناقض مع ما تم التعارف عليه بخصوص الباستيل، إذ يقول لنا ان الناس لا يخافون الباستيل بقدر ما يخافون قصر شاتليه (احد قصور الحكم). صحيح ان ما من وسيلة تمكنهم من عبور أبواب ذلك الحصن - الباستيل -، (الذي سيكون تدميره من الثوريين الفرنسيين، رمزاً لانتصار الثورة)، لكن الحصن لم يكن يخيفهم الى ذلك الحد الذي حوّله رمزاً بعد ذلك. ولنقرأ مرسييه هنا أيضاً وهو يؤكد لنا في سياق مماثل أن باريس تعيش حرية دينية لا مثيل لها حيث ان «اليهود والبروتستانت والملحدين وأصحاب نزعة الحلولية الإلهية يعيش كل واحد منهم على مزاجه وعلى هواه. ولقد توقفت النقاشات القديمة الصاخبة حول الأديان وبين أصحاب هذه الأديان. صار ذلك السجال أمراً بائداً... وكان لا بد من ذلك، طبعاً، بعد قرون وقرون من الصراعات والسجالات الدينية».
> نذكر هنا ان لوي - سيباستيان مرسييه (1740 - 1814) أصدر الجزءين الأولين من «موسوعته» الاجتماعية هذه في مدينة نيوشاتيل، العام 1781، متعمداً ألا يحمل الجزآن اسمَه... ومع هذا عرف الكل انه هو المؤلف ما سبّب له بعض المشكلات مع السلطات التي كانت ايديولوجيتها نفسها تقوم على أسس تتناقض مع ما في الكتاب. غير ان تلك المشكلات زالت بسرعة، حين راح الثوريون ورجال السلطة يلهون ببعضهم بعضاً، ما وفّر لعمل مرسييه نجاحاً طيباً. ولقد واصل مرسييه نشر أجزاء كتابه الباقية، حاملة اسمه حتى عشية الثورة التي، من المدهش، انه هو نفسه لعب فيها دوراً لا بأس به. ( الحياة اللندنية )