مصائب التقسيم .. وفوائده!!

اذا صحّ بأن عدد الدول العربية سوف يتضاعف عبر الانشطار المبرمج فان عدد المتضررين من هذا التكاثر الأميبي أقل من عدد المنتفعين، فالمتضرر هو المواطن الذي لا يزال على قيد هويته وانتمائه رغم كل عمليات التجريف القومي، وهو الذي يقبل بنفس طائعة أن يكون كاتباً أو طبيباً أو مهندساً أو محافظاً أو وزيراً في أمة كبيرة ذات حضور وفاعلية، ويرفض أن يكون نقيباً في قرية أو رئيس اتحاد كتاب في حارة أو وزيراً في محمية.
أما المنتفعون من هذا التقسيم فهم الذين يدركون جيداً أن لا شأن لهم ولا باع في دولة كبرى، وان فرصتهم في ان يظفروا بنصيب الأرنب ويتصوروا أنه نصيب الأسد في الغابة بعد أن تصبح داجنة وتتحول الى سلسلة الحدائق، تماماً كما تظفر سمكة السردين بنصيب الحوت إذا أفرغ البحر في غدران أو برك داجنة.
وتلك حكاية قديمة، عرضها العرب وغيرهم على امتداد التاريخ، فالمتحمسون لتقسيم بلدانهم هم الثانويون في كل شيء، والباحثون عن حجر في بيت مهدم أو بقايا خشبة من سفينة غارقة، وما نخشاه هو أن تستمر متوالية المنتفعين بهذا التقسيم لأن منهم من يرضى بأن يلعق أي بسطار مقابل غنيمة هي في النهاية من لحم أطفاله وربما من عظام أبيه.
ومن يتشبثون بجمرة الهوية الأم واللغة الأم والتاريخ الأب نادرون الآن، ونخشى أن ينقرضوا ككل الأشياء الأصيلة في الطبيعة.. لهذا المعركة غير متكافئة بين بقايا تلك السلالة وبين القطعان التي تعيش بالخبز وحده، ولا يهمها ان كان مغمساً في ماء الوجه أو بصاق أولياء النعم الجدد، لكن المسألة في النهاية ليست حرباً بين أرقام، لأن المنوط بهم منذ بدء الخليقة والحضارات للحفاظ على الميراث والذود عنه عددهم قليل، لكن الواحد منهم بألف بحسابات العصر الأموي مثلاً، لكنه الآن بمليون أو اكثر، لأن القطعان ما أن يتعرض فرد منها لأذى أو عدوان حتى تلوذ بالفرار لتجد نفسها قد وقعت في كمين آخر.
ان لاعادة رسم تضاريسنا العربية جغرافياً وسياسياً وفق مقياس جديد مصائب وفوائد، والمصائب للبعض هي فوائد للآخرين، لهذا يجب فك الاشتباك بين اعلامين وخطابين كي لا يُضللنا الالتباس فنصدق أن المدبر مُقبل وأن العضة في الخد قبلة!
وليست قراءة التاريخ وحدها هي ما تشكل الوعي الآن بما يطرق ويصنّع من هويات فرعية والأهم هو القبض على المشترك بين استعمار قديم وكلاسيكي وآخر يرتدي أقنعة ما بعد الحداثة، وبين تبعية صريحة وأخرى تسمى من باب الغواية والتضليل شراكة، فالأشياء أصبحت تنوب عن الأصول في كل شيء، والعيون التي تفرز كليلة لفرط العياء، وقد يكون الارتهان الآن رغم كل مساحيق التجميل التي تختفي ندوبه وتقرحاته أقسى من تبعية الأمس، لأن ما هو واضح أبلغ وأفصح ألف مرة من المُلتبس والمموّه، واذا كان الكثير ممن لعنوا سايكس وتوأمه الكولوينالي بيكو استفادوا منهم وكرّسوا خرائطهم، فإن بعض من يتظاهرون الآن بالخوف على العرب من أن يصبحوا مئة دولة ودولة قد يقرعون الطبول إذا حدث ذلك. ( الدستور )