عامان على فوكوشيما ..... احداث وعبر
في تمام الساعة 14:46 بتوقيت اليابان المحلي...من 11 اذار من عام 2011 شهدت اليابان افظع كارثة طبيعية في تاريخها .اذ ضرب زلزال مروع محافظة فوكوشيما بقوة 8.9 على مقياس ريختر ، وتسبب بكارثة تاريخية أتت على المنطقة برمتها وأودت بحياة حوالي 19 ألف ياباني .وحسب احصائيات الحكومة اليابانية الرسمية فقد اتى الزلزال والتسونامي على قتل 15,881 وجرح 6,142 وفقدان 2,668 (ولا يزال الى هذه اللحظة لم يعرف اي اثر عنهم) وتدميرا كاملا لـ 129,225 منزلا 254,204 منزلانصف مدمر 691,799 منزلا شبه مدمر أي ما يقارب 900 الف عمارة في عداد التدمير.
ويذكر أن هذا الزلزال الذي حدث هو خامس أقوى زلزال في تاريخ الكرة الأرضية منذ عام 1900 والأقوى في اليابان على مر تاريخها المعاصر. ونظرا للقوة الرهيبة لهذا الزلزال فقد تأثرت آنذاك جزر هاواي الأمريكية، كما أن الزلزال الذي بلغته قوته 8.9 أدى إلى انخفاض المياه في سواحل كاليفورنيا في أمريكا من الجهة الغربية من أمريكا المقابلة لليابان ، وقد بلغ حجم الدمار ماليا ما يزيد عن 500 مليار دولار وقد توقعت الحكومة اليابانية أن تصل تكلفة إعادة إعمار ما دمره الزلزال وموجات تسونامي إلى 152 مليار دولار على مدى خمس سنوات.
واليوم الاثنين تحيي اليابان الذكرى السنوية الثانية للزلزال المدمر الذي تلاه تسونامي وعلى الطريقة اليابانية ، بان تتوقف كافة الحركة والعمل من سيارات ودوائر حكومية ومدارس وجامعات في تمام الساعة 14:46 للحظات قليلة وتقرع الاجراس وصفارات الانذار مع وقفة حزن ودعاء مستذكيرين الحادث المروع الذي اودى بحياة الكثير من الاطفال والشيوخ والشباب كنوع من الحزن والدعاء لمن فقدوا ارواحهم في ذلك الوقت. وعادة ما يقوم افراد العائلات اليابانية بزيارة نفس المكان الذي فقدت به الضحية روحها ويقومون بوضع باقة من الورود وهو تقليد ياباني معروف كنوع من الحزن والتذكير بمكان الحدث الذي فاضت فيه الروح...فلا عجب ان نرى اليوم اللالاف من باقات الورود تغطي عدة مدن من محافظة فوكوشيما.
وقد ضرب اليابانيون اروع امثلة التضحية والتعاون والايثار خلال هذه الحادث الاليم واستحقوا فعلا احترام وتقدير الشعوب العالمية كافة ، فلم تسجل اية حالة سرقة او اعتداء على الممتلكات العامة وتعاون الجميع على تقاسم مصادر الحياة من ماء وطعام ورضوا بالكفاف والقليل مما يسد رمق الجوع ، حتى تكفي مؤنة الجميع ، وكان الكثير من اليابانيين يملكون قوت يومهم الواحد فقط واحيانا لا يملكون شيئا. ومع ذلك لم نرى اي نوع من التذمر والشكوى او حتى الاعتداء على مصادر الاخرين.
وقد هب اليابانيون على اختلاف مواقعهم بمساعدة اخوانهم في المحافظة المنكوبة فاتت المساعدات من انحاء البلاد وتوافدت الشاحنات وعلى الرغم من صعوبة الطرق التي كانت شبه معدومة والتي دمرها الزلزال والتسونامي ، الا انها وصلت بعزم وتصميم وارادة اليابانيين محملة بكل انواع المساعدات وحتى ادق الاشياء التي لا تخطر على ذهن اي شخص فقد شاهدت شاحنة بها طرودا محملة بالنظارات الطبية لكبار السن الذين فقدوا بيوتهم وجميع ممتلكاتهم الشخصية فهم بحاجة الى نظارات للقراءة ، لقد كانت فعلا موجودة . وايضا شاهدنا جميعا على شاشات التلفاز كيف يقوم متطوعون من اليابان بمساعدة الاهالي في تنظيف البيوت التي بقيت وصمدت من المياه والوحل وكيف انهم كانوا يذهبون باوقات معينة وضمن برامج محددة للمساعدة وبدون مقابل ، فلا عجب ان ترى افواجا يقرعون الابواب ويهرعون بمساعدات من غمرت الاوحال منزله ...فهم لا يعرفونهم ولا يمتون لهم باي صلة من القرابة لكن جمعتهم روح العمل الجماعي وروح التعاون . وحتى ان بعض الفرق التطوعية اخذت على عاتقها فتح صفوف تدريسية للطلبة لمتابعة تحصيلهم العلمي .
وقد شاهدت فيلما وثائقيا عرض في عمان بالتعاون مع الهيئة الملكية للافلام والسفارة اليابانية بمناسبة مرور عام على احداث فوكوشيما ومن ضمن الاحداث في ذلك الفيلم شاهدت مجموعة من الاجانب غير اليابانيين يقدمون الطعام ويطهون الكاري الشهير يوميا وعلى مدار ايام الكارثة بدون مقابل وحين سئل هولاء الشباب لماذا تقدمون مثل هذه الخدمات تطوعا؟ اجابوا ان اليابان قدمت لهم الكثير عندما كانوا طلابا وكذلك في اي كارثة او اي محنة تقدم اليابان االكثير من المساعدات لبلادهم ! فمن العار ان لا نقف مع اليابان الان في محنتها، لقد ضربت اليابان وهي في محنتها اروع الامثال للتعاون البشري وجمعت اطياف واجناس مختلفة من العالم لا تجمعهم لغة او عادات تحت مظلة عظيمة هي ان الانسان خلق ليساعد اخاه الانسان سواء بالسلم ام الحرب وبغض النظر عن اية معتقدات . فكان هنالك الكثير ممن المتطوعين من مختلف الملل والمعتقدات والاديان والاجناس البشرية ، ومن هنا من الاردن شارك فريق طبي من مدينة الحسين الطبية بتوجيهات ملكية سامية لتقديم المساعدات الطبية لمن هم بحاجة اليها وبتطوع .
وما نريد ان نذكره هنا ايضا من العبر ان اليابان على الرغم من الكوارث التي تداهمها الا انها تعود وتقف على رجليها وقديما قيل (اليابان يمكن أن تولد مجددا من رحم اي كارثة
تتعرض لها ) ، وعلى الرغم من التكلفة الاقتصادية العالية التي لحقت باليابان الا ان الحكومة اليابانية لم تكبو كبوة جامحة فقد اخذت على عاتقتها وبسياسة حكيمة عدة استراتيجيات للخروج من هذه الكارثة ، فالكل يعلم كم تراجع الين مقابل صرف العملات العالمية وشهدت اليابان ركودا اقتصاديا ولاول مرة يصبح الناتج المحلي الاجمالي سالبا وكما يقال باللغة اليابانية (اكا جي-خط احمر) يعني خسارة فادحة ، فماذا عملت اليابان حتى تتخطى هذا . قد لا يعلم الكثير ان المواطن الياباني ساهم وبشكل شخصي من راتبه الذي يقبضه من الحكومة اليابانية بنسبة اقتطاع وكل حسب راتبه ، فمن يتقاضى راتبا عاليا كانت نسبة الاقتطاع تصل الى 10 بالمئة مثلا ، وهذا مبلغ ليس بالقليل ونحن نعلم ان الرواتب في اليابان عالية جدا ، ومن بلغ راتبه الشهري 5 الاف دولار كانت تقتطع الدولة شهريا 500 دولار لصالح الاعمار في فوكوشيما ومن كان يبلغ راتبه 2000 دولار على سبيل المثال كانت الحكومة تتقتطع منه 5 بالمئة اي 100 دولار وهكذا ولمدة محددة الى ان يتم يتعافي الاقتصاد الياباني والتي قدرت غالبا على نحو خمس سنوات من تاريخ وقوع الحادثة، وهنا نلاحظ كم هي التضحية التي يقوم بها اليابنيون في سبيل مصلحة بلادهم الاقتصادية وبدون تذمر وعن طيب قلب.
ومن طريف ما يروي عن اليابانين وعن حب المساعدة لاخوانهم ان مدير الشركة التي تسير امور ميناء وسوق سمك في مدينة مياجي اليابانية في محافظة فوكوشيما اعلن عن إستلام طرداً بريدياً يوجد به سبيكتين ذهبيتين يبلغ كل واحدة منها حوالي كيلوغراماً واحداً من الذهب الخاص، ولم يحمل الطرد أي عنوان للمرسل، وانبهر مدير الشركة بما وصل اليه وقال: "لقد أصابني الذهول عندما وجدت سبيكتين ذهبيتين من عيار 24 قيراطاً. إحداهما كانت ملفوفة بورق بني، اما الاخرى فكانت ملفوفة بورقة من احدى المجلات." ولا يوجد بها اي عبارة سوى انها وصلت اليه بحكم انه رئيس شبكة إعادة إعمار احدى المدن التي لحق بها الدمار. واضاف انه سيستخدم المال لإعادة بناء سوق سمك المدينة الذي تضرر بصورة كبيرة اذ اصبحت عمليات البيع تجري في الخيام بدل المحلات.
ومن الامور الممتعة التي شاهدتها بام عيني في اليابان في صيف عام 2011 كيف يتعاون الياباني في التوفير من استهلاك الطاقة على المستوى الشخصي ، ففي السنة التي ضرب بها الزلزال لاحظت ان الكثير من المنازل اليابانية وخاصة في فصل الصيف (ومن لا يعرف عن الطبيعية الجغرافية لليابان فهي حارة رطبة جدا في الصيف ذات امطار موسمية وقد تصل الرطوبة في بعض الاحيان اكثر من 90 بالمئة ، فلا غرو ان نجد في معظم المنازل والقطاع العام والخاص الكثير من المكيفات الكهربائية) وفي ذلك الوقت اوعزت الحكومة الى كافة المواطنين الى التقليل من استخدام المكيفات ، بعد ان اوقفت الحكومة اليابانية كافة المحطات النووية التي تولد الكهرباء وشهدت اليابان لاول مرة بعد الحرب العالمية الثانية وبعد ازمة نفظ 1973 اسوا مراحل العجز الكهربائي اذا اصبحت المحطات التقليدية التي تعمل على الوقود الاحفوري لا تلبي احتياجات الدولة من الكهرباء، في بلد يعتمد اعتمادا كبيرا على الطاقة ، وفجاة تتوقف كل هذه المفاعلات، وللتغلب على هذا النقص اخذت الحكومة بتوعية المواطنين بان يتم تشغيل المكيفات على درجة حرارة مابين 25-27 بدلا من 18 او 20 وهي درجة غير اعتيادية لكنها لا تستهلك طاقة ، وان تطفا الانوار في القطارات اثناء النهار وكافة مؤسسات القطاع العام والخاص خلال النهار ، وتم تقصير فترة العمل المسائي وبدلا من العودة ليلا اصبح الموظف يعود الساعة الخامسة مساء و يبدا العمل في الصباح الباكر للاستفادة من الضوء الطبيعي ، وفي بعض الاحيان قامت شركات بمنح الموظفين اجازة مدفوعة للتقليل من ساعات العمل ، او العمل ايام الاجازات للتخفيف من الحمل الكهربائي..وتجد ان الجميع ملتزما بذلك وحتى على المستوى الشخصي كنت اجد في كثير من المنازل يضبطون مكيفاتهم على درجة حرارة 27 مئوية التي اوعزت الحكومة بالالتزام بها . وان كثير من الاماكن التي لا يوجد بها احد تكون مطفاة الانوار واجهزة الحاسوب تطفا عندما لا تستخدم لساعات طويلة ، والطابعات لا تشغل الا عند الطباعة ، وفعلا شعرت انني في جو من حالة الطوارئ القصوى وشعرت كيف يتعاون الياباينين من اقصى شماله الى اقصى جنوبه كلهم متعاونون والكل يعرف ان هذا الإجراء ليس إلزامي والشركات لن تواجه اي عقوبات إذا تجاهلت هذا الإجراء، ولكنها ستواجه انقطاع التيار الكهربائي إذا لم تلتزم بترشيد الاستهلاك.
من العبر التي لاحظنا في اليابان بعد الحادثة ان الحكومة عكفت على وضع مسودة خطة رسمية خاصة بعملية التعمير وإلى استغلال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح نظرا لغياب ثقة الرأي العام في الطاقة النووية وقامت بالعمل على تركيب بعض أضخم منشآت الطاقة الشمسية وطاقة الرياح اليابانية في المنطقة التي ضربتها الكارثة. ونلاحظ هنا كيف ان اليابان اصبحت تهاب كوارث يسهل السيطرة مثل التسرب النووي فالاستغناء عنه يحمي البلاد من كوراث اضافية.
هنالك الكثير من العبر التي استفادت منها اليابان بعد هذه الحادثة ولاشك ان المجال لا يتسع لسردها لكن اود ان اختم مقالي هذا بالقول ان الاردن لم يبخل بتقديم يد العون والمساعدة لليابان في هذه المحنة وقد ساهم الكثير من الاردنيين بتقديم التبرعات التي فتح بابه على مصراعيه في السفارة اليابانية في عمان ، وقامت جمعيات غير حكومية بجمع التبرعات لصالح مؤسسات يابانية وقد قامت مجموعة تطوعية اردنية يابانية بعمل حفل خيري تحت مسمى (لنعزف من اجل فوكوشيما) وجمعت تبرعات بلغت 5400 ادينارا اردنيا تم ارسالها كافة ، الى احدى المؤسسات في مدينة سوما في محافظة فوكوشيما التي تعتني بالاطفال اليتامى الذين فقدوا ابائهم وامهاتهم واصبحوا بلا ماوى ولا اهل يحنو عليهم فاخذت هذه الموسسة على عاتقتها تربية وتعليم هولاء الاطفال ، وقد سعدنا بان قمنا بارسال هذا المبلغ المتواضع الى عمدة المدينة في محافظة فوكوشيما واعتبرناها مشاركة اردنية متواضعة من الشعب الاردني الى الشعب الياباني الذي لم يبخل يوما في دعم المشاريع الحيوية في الاردن ولم يبخل يوما في دعم الموزانة الاردنية ولا زلت اذكر ان الحكومة اليابانية تبرعت في نفس الفترة التي حدث بها الزلزال بمبلغ 30 مليون دولار لدعم احدى المحافظات الاردنية لدعم مشاريع البنية التحتية .
ونحن اليوم نحي الذكرى الثانية لهذه الكارثة التي حلت بالشعب االياباني نقف اجلالا واحتراما لهذا الشعب الذي نذر على نفسه الخدمة الانسانية والبشرية وتحقيق السلام في شتى بقاع الارض ويحضرني هنا قول شاعر النيل في قصيدته الشهيرة غادة اليابان (مرحبا بالخطب يبلوني اذا .........كانت العلياء فيه السببا)...