«ملكوت هذا العالم» لآليخو كاربانتييه: التاريخ مادة للأدب السحري

ليست للعدد الصغير لصفحات رواية «ملكوت هذا العالم» للكاتب الكوبي آليخو كاربانتييه، علاقة بصغر الرقعة الجغرافية التي يتحدث عنها موضوع الرواية... ومع هذا يلاحظ كثر بدهشة ان هذه الرواية التي تعتبر عادة من اهم نتاجات هذا الكاتب الذي كان من اوائل مطلقي فورة الواقعية السحرية في ادب اميركا اللاتينية، تتحدث عن تاريخ بأسره وعن عدد مدهش من الأحداث والشخصيات، وتطاول مسائل بالغة الأهمية مثل السحر و «الفودو» وعلاقة التاريخ بالرواية وبزوغ عصر التنوير في اميركا الوسطى، ولا سيما منطقة بحر الكاراييب، وبلوغ قوات نابليون بونابرت تلك المناطق القصية من العالم، بقيادة صهره الجنرال لوكليرك زوج أخته بولين، وقضايا انعتاق العبيد وثوراتهم... وعشرات المواضيع والأفكار الأخرى في اقل من مئتي صفحة، قد يقرأها قارئ محترف في اقل من خمس ساعات! حسناً، قد يؤكد لنا هذا الأمر مرة اخرى ان «الحجم لا يهمّ»، ومع هذا يتساءل كثر من النقاد والباحثين منذ صدور الرواية عن السبب الذي جعل كاتبها يختصرها الى هذا الحد... مع ملاحظة ان ثمة صفحات تبدو دائماً في حاجة الى تطوير وإسهاب...
> مهما يكن من أمر هنا، قد يمكن القول في هذا السياق ان كاربانتييه، لم يكف على اية حال، عن تطوير هذه الرواية والغوص في تفاصيل مواضيعها وأفكارها، إن لم يكن على صفحاتها. ففي رواياته التالية لها وكانت كثيرة وتزداد طولاً مع الوقت كما تزداد ازدحاماً بالشخصيات والمواقف والأفكار، ناهيك بأنها دنت في شكل متواصل من نفس أفكار التحرر والانعتاق والتنوير والحكم الديكتاتوري والفكر... وما الى ذلك. ومع هذا، كي لا يبدو وكأننا نشير هنا الى ان كاربانتييه كان ينتمي الى ذلك الرهط من كتّاب القبضات المرفوعة والواقعيات الإيجابية والأبطال الشعبيين، لا بد من ان نسارع الى تأكيد ان الرجل كان من كبار الروائيين ومن الذين جعلوا للسحر والغرائبية مكاناً اساسياً في نصوصهم. وفي هذا الإطار لن يكون من قبيل استباق الأمور هنا القول ان «ملكوت هذا العالم» تلخّص تلك التوجهات كلها خير تلخيص... بل قد يكون مفيداً ان نشير هنا الى ان الكاتب نفسه حين اصدر الطبعة الأولى من هذه الرواية في عام 1949 جعل لها مقدمة نظرية شرح فيها أساليبه الروائية وما الذي يعنيه بفكرة الواقعية السحرية، فاعتبر ذلك النص من حينها، اول تحديد نظري لذلك النوع الأدبي الذي سيعرف ازدهاراً كبيراً لاحقاً... غير ان تلك المقدمة عادت واختفت من ترجمات الرواية الى لغات اخرى، كما من الطبعات الشعبية لها في لغتها الإسبانية الأصلية.
> تدور الأحداث الأساسية للرواية عند بدايات القرن الثامن عشر في منطقة سان دومنغو في الكاراييب... اما البداية فتأخذنا الى منطقة «كا فرانسيه» حيث يطالعنا منذ البداية العبد الشاب تي نويل، الذي سنكتشف تباعاً انه هو الشخصية المحورية في ذلك العمل. إن تي نويل هنا كان لا يزال في مطلع شبابه ونراه يدور مع سيده الفرنسي لينورمان ديميزي... في جولة يرسم لنا الكاتب من خلالها الأجواء السائدة في تلك المنطقة النائية من العالم، حيث يصور قلم الكاتب بكل براعة ذلك «التفاوت المدهش بين عالمين يتجاوران ويتعايشان، حتى تلك اللحظة على الأقل، في شكل غريب: عالم شديد الحداثة والتقدم هو عالم السادة البيض المحتلين ومعظمهم من اصول فرنسية يعيشون عيشاً اوروبياً مرفهاً وكأنهم في باريس، وعالم آخر شديد التخلف، هو عالم العبيد السود البائسين من الذين يخدمون اولئك، واجدين العزاء على بؤسهم في ممارسات الفودو السحرية»... والحال ان تصوير الفارق بين العالمين يعطي الكاتب فرصة جيدة للإسهاب في الحديث عن الفودو الذي سرعان ما سنلاحظ انه يلعب دوراً اساسياً في الرواية كما في حياة الناس، وكل هذا يلوح دائماً من خلال الدنو المتواصل من شخصية تي نويل الذي سنكتشف، في ما نكتشف عنه، انه كخضوعه لسادته البيض، يخضع ايضاً لسيده الروحي الساحر ماكندال كاهن الفودو الأكبر. اما بالنسبة الى الأحداث نفسها، فإنها ستبدأ بالتصاعد مع ماكندال هذا، إذ تُقطع ذراعه اليسرى بسبب انحشارها في كماشة، ما يجعله يفر الى الجبال بعد ان يصبّ لعنته على البشر والحيوانات وعلى كل ما في المزرعة. وبالفعل تفعل اللعنة فعلها ويسود موت ومرض، ما يدفع سلطات السادة البيض الى القبض على ماكندال وإعدامه. غير انه، بفضل السحر، ينبعث حياً، ما يجعل ثورة عبيد ضد البيض تندلع ويفر من ينجو من هؤلاء الى سانتياغو في كوبا، في وقت يقيم فيه طباخ السادة البيض السابق جان-كريستوف امبراطورية سود يحكمها...
> في سانتياغو الكوبية تدور الحياة في شكل مختلف، وهو ما يصفه كاربانتييه في القسم التالي من الكتاب في شكل رائع، ولا سيما منذ اللحظة التي تصل فيها الى المكان سفن تقل قوات فرنسية يقودها الجنرال لوكليرك. والحال ان وصول هذه القوات ليس مهماً في الرواية في حد ذاته، بل لأنه يأتي مصحوباً بوصول الأميرة بولين شقيقة نابليون المرافقة زوجها الجنرال. انها، كما توصف هنا، آية في السحر والرقة... انها الأنثى الناعمة التي تبدو نقيضاً لكل القسوة والعنف السائدين في المكان، ولعل هذا يتجلى اكثر ما يتجلى في تلك اللحظات البديعة حيث يتولى العبد الشاب سليمان تدليك جسد هذه السيدة... انه تدليك ربيعي يأتي هنا ليسجل لحظات نادرة... وإذا كان القارئ سيجد نفسه في هذه الصفحات اقرب الى رحاب الفردوس، فكيف حال سليمان؟ ان المسكين سينتهي الأمر به لاحقاً الى الجنون بعد ان تغادر بولين المكان عائدة الى فرنسا إثر مقتل زوجها الجنرال، ما ينزع من الرواية جزءاً من لحظات السحر، ومن سليمان مبرر وجود كان يمثله ذلك التدليك، فإذا به لاحقاً حين يجد نفسه أمام تمثال لبولين ينصرف الى تدليكه وقد فقد رشده. اما بالنسبة الى بطلنا تي نويل، فإنه يكون هنا قد تقدم في السن، وهو إذ يفقد سيده لينورمان الذي كان قد رافقه، كعادته، الى منفاه الكوبي، لا يجد أمامه إلا ان يعود الى «كا فرانسيه»، حيث سيكتشف تحويل الطباخ السابق جان كريستوف المكان الى امبراطورية مستقلة وقد تولى قيادة ثورة العبيد.. غير ان هذه الحال لن تطول بجان كريستوف، إذ بعد زمن حكم وتحكّم فيه، كان لا بد لنهايته من ان تحلّ. وهكذا، اذ يسود في «عهده» فساد وطمع ومؤامرات كواليس، يسهب كاربانتييه في وصفها، تحل نهايته حيث ينتحر انتحاراً شكسبيرياً مدوياً. أما تي نويل فإنه، في القسم الأخير من الرواية، يواصل حياته واتّباعه تقلبات تلك الحياة، ولكن دائماً في حمى سيده الروحي الساحر ماكندال، الذي لا يختفي في الرواية إلا ليظهر من جديد دائماً اقوى وبسحر يبدو دائماً، اكثر فاعلية، هو الذي يهيمن على الوجود هنا حتى وإن عجز غالباً عن التحكم بحركة التاريخ. حسبه هو ان يتحكم في لا وعي مريديه، وفي الجانب الروحي للأحداث. ولا سيما عبر ارتباط تي نويل به... وعند نهاية الرواية، لن يدهشنا ان ماكندال يواصل تجلياته وظهوره بتنويعات وأشكال مختلفة... ثم بخاصة بعد ان يتجسد في تي نويل نفسه ليكمل هذا مسيرته الى ابد الآبدين...
> طبعاً يمكننا ان نتصور ان ماكندال وتي نويل وغيرهما، شخصيات خيالية، ابتكرتها او ركّبتها مخيلة الكاتب، غير ان كل ما تبقى هنا في هذه الرواية القصيرة نسبياً، حقيقي وتاريخي بما في ذلك الأمبراطورية التي انشأها جان كريستوف والتي كانت، تاريخياً، الأساس الذي بُنيَ عليه استقلال هايتي بصفتها ثاني اقدم «دولة» نالت استقلالها في القارة الأميركية بعد الولايات المتحدة...بل وربما اول امة استقلت، على اعتبار ان الولايات المتحدة هي بالأحرى كونفيدرالية امم وولايات!! ومهما يكن من امر، فإننا هنا امام رواية تستخدم التاريخ مادة لها فترسمه كما هو في حقائقه وتفاصيله، لكنها ترسم خلفياته مبتكرة له أبعاداً غالباً ما تبدو سحرية تغوص في دواخل الشخصيات اكثر مما تغوص في سلوكهم... ومن جديد لا بد من الإشارة الى ان التعبير عن هذا كان دائماً دأب آليخو كاربانتييه (1904-1980) الكوبي من اصول فرنسية والذي كان مناضلاً وكاتباً وديبلوماسياً مقرباً من الزعيم فيديل كاسترو. ومن ابرز رواياته «اقتسام المياه» و «عصر الأنوار» و «اللجوء الى المنهج» و «الكونشرتو الباروكي»... ( الحياة اللندنية )