أوباما يدفع عباس إلى الانتحار السياسي
(لا يوجد أي تفسير لإصرار الرئيس أوباما على دفع نظيره عباس إلى السير في طريق مسدود سوى ما يرقى إلى خطة أميركية مكشوفة لدفع الرئاسة الفلسطينية إلى الانتحار السياسي بين خيارين أحلاهما مر)
بانتظار أن يظهر إلى العلن ما قيل وراء الكواليس المغلقة بين الرئيسين الفلسطيني محمود عباس والأميركي باراك أوباما في رام الله يوم الخميس الماضي، يظل على عباس وحده أن يفسر كيف كانت محادثاتهما "جيدة ومفيدة" على حد وصفه، في ضوء تصريحات ضيفه المعلنة بعدها بأن "الطريق الوحيد" الذي يدفع أوباما عباس إلى السير فيه هو طريق "المفاوضات المباشرة" الثنائية مع حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي من دون أي تدخل أميركي يتجاوز "المساعدة" في ذلك كما أعلن أوباما في مؤتمرهما الصحفي المشترك.
ولأن كليهما يعرف بأن هذا الطريق مسدود منذ زمن أمام طموحات الحد الأدنى الفلسطينية، فإنه لا يوجد أي تفسير لإصرار الرئيس أوباما على دفع نظيره عباس إلى السير في طريق مسدود سوى ما يرقى إلى خطة أميركية مكشوفة بالكاد لا يمكن وصفها بالتآمر العلني لدفع الرئاسة الفلسطينية إلى الانتحار السياسي بين خيارين أحلاهما مر: إما الاستمرار في الوضع الراهن أو الاستسلام لاستئناف المفاوضات الثنائية المباشرة بالشروط الإسرائيلية – الأميركية المعروفة.
وحتى يحدث ذلك لا بد من وضع صاحب القرار الفلسطيني في حالة يأس كامل، وقد بعث أوباما برسالة تيئيس أميركية واضحة بقوله إن "إسرائيل هي الدولة الأقوى في المنطقة ولديها دعم أقوى دولة في العالم"، أي الولايات المتحدة، لذلك "على الفلسطينيين أن يعترفوا بإسرائيل كدولة يهودية"، وقد "حان الوقت كي تطبع الدول العربية علاقاتها مع إسرائيل"، وهو لم يبد متعجلا لإحلال سلام "رسمي" إذ "من أجل تحقيق سلام دائم، فإن العلاقات الشعبية أهم من العلاقات الحكومية".
وهذه باختصار دعوة أميركية صريحة إلى الاستسلام الفلسطيني والعربي، خصوصا وأنها لم تقترن بأي دعوة في المقابل لدولة الاحتلال كي تعترف بدولة فلسطين، وتوقف استعمارها الاستيطاني في الضفة الغربية، ولا بتذكير مماثل بأن "الوقت قد حان" لإنهاء الاحتلال المستمر الذي وقع عام 1967 على الأراضي العربية في فلسطين وسوريا ولبنان وإنهاء آثار هذا الاحتلال الذي لا يزال ينتقص من السيادة المصرية في شبه جزيرة سيناء.
ولتأكيد "رسالة التيئيس" التي بعث بها بخل أوباما على الرئاسة الفلسطينية حتى بمنحها الأمل في مخرج منظور من مأزقها الراهن، وهو مأزق يعود الفضل الأول والأخير فيه إلى الولايات المتحدة التي يرأسها، فلا يوجد "طريق قصير نحو الحل الدائم" كما قال، وكأنما يكاد يقول إن على الرئاسة الفلسطينية أن تقبل بالحل المؤقت طويل المدى الذي تدعو له دولة الاحتلال، وهو يشكك في كون "السلام" الذي ترعى بلاده عمليته العقيمة منذ حوالي عقدين من الزمن مضمونا بقوله: "أنا لا أقول إن السلام مضمون، لكنني أقول إنه ممكن".
فإنهاء الاحتلال ليس هو القضية بالنسبة لأوباما كما يستدل من تصريحاته خلال زيارته، فالاحتلال وآثاره مثل "استمرار الاستيطان واحتجاز الأسرى وعدم الوصول الى القدس للصلاة"، كما نسب لعباس قوله له، هي في رأيه مجرد "معيقات" وهو "يتفهمها"، بل القضية هي "ضرورة عدم الاستسلام لحالة الإحباط" الناجمة عنها التي "يتفهمها" بدورها، والقضية في رأيه هي "ضرورة تجاوز كافة المعيقات التي تعترض سبيل العودة للمفاوضات" الثنائية المباشرة، والقضية كذلك هي "السلام الذي يضمن الأمن" لدولة الاحتلال و"لجميع الإسرائيلين" كما قال أوباما في خطابه لطلاب جامعات دولة الاحتلال في القدس المحتلة مساء الخميس الماضي.
والقضية المباشرة في المدى المنظور كما قال هي "البحث عن السبل التي من خلالها نصل إلى بناء الثقة" لاستئناف المفاوضات، ومن "المعيقات" لذلك التي ذكرها "حركة حماس ... ورفضها التخلي عن العنف"، وليس الاستعمار الاستيطاني التهويدي المتسارع في الضفة الغربية حيث حماس مطاردة، وحيث يوجد فقط الرئيس عباس الذي لا يكل عن تكرار مناهضته للعنف ورفضه لمقاومة الاحتلال ب"الكفاح المسلح" وهو المسؤول وليس حماس فقط عن رفض الضغوط الأميركية لاستئناف المفاوضات قبل "تجميد" الاستيطان الذي تراجع أوباما عن مواقف إدارات أميركية سابقة كانت تعلنه "غير شرعي" ليعده الآن "ليس بناء أو مناسبا أو يساهم في تقدم قضية السلام" كما قال إنه أبلغ رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو خلال زيارته الحالية.
لا بل إنه أعلن مسوغات لدولة الاحتلال لعدم وقف مشروعها الاستيطاني، فالعمل السياسي فيها "معقد" يجعل من الصعب اتخاذ قرار حكومي بهذا الشأن، معتبرا أن "هذه القضية لن تحل بين ليلة وضحاها" فيها، وتجاهل قول عباس له إن وقف الاستيطان "ليس مطلبا فلسطينيا فقط، بل هو مطلب دولي" وتذكيره له بوجود أكثر من (13) قرارا من مجلس أمن الأمم المتحدة ضد الاستيطان لا تزال تنتظر "تجميد" استخدام حق النقض "الفيتو" الأميركي ضد تنفيذها، لذلك لم يكن مستغربا أن يتجاهل أوباما إعلان وزير مالية الاحتلال يائير لبيد، الوجه الجديد في حكومة نتنياهو الجديدة، عن خطة بناء (16) ألف وحدة استيطانية جديدة مع تسهيلات مالية لشرائها عشية زيارته.
وفي دعوته عباس لاستئناف المفاوضات مع هذه الحكومة بدا أوباما إسرائيليا أكثر من الإسرائيليين، ففي تصريح صحفي أصدرته منظمة "غوش شالوم" في (18) الشهر الجاري قالت: "اليوم قامت في إسرائيل حكومة يمينية متطرفة يشغل المستوطنون وحلفاؤهم فيها كل المناصب الرئيسية" ما يجعلها بحكم تكوينها "عاجزة عن إجراء أي مفاوضات".
لقد كانت خلاصة التوقعات من زيارة الرئيس الأميركي للرئاسة الفلسطينية يوم الخميس الماضي صفرا لتؤكد ما توقعه مستشار الرئيس الفلسطيني القيادي في حركة فتح د. صبري صيدم الذي حذر عشية الزيارة في مقال منشور له من أن زيارة أوباما "لن تكون إلا تدشينا لمرحلة جديدة لمواجهة عنيفة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وبداية لعملية اغتيال حل الدولتين وربما الإعلان رسميا عن وفاة ذلك الحل في عهده" (القدس العربي في 20/3/2013).
ويبدو أن وصف حركة حماس لزيارة الرئيس الأميركي وبرنامجها وما قاله خلالها يظل أقرب إلى الدقة من وصف عباس لمحادثاته مع أوباما فيها بأنها كانت "جيدة ومفيدة"، فأوباما في رام الله كان "يتملص من الإجابات الحاسمة ولم يلتزم للفلسطينيين بأية استحقاقات قطعها على نفسه سابقا" كما قال الناطق الرسمي باسم الحركة د. صلاح البردويل، وذلك لن يقود إلى "أي اختراق يغير المعادلة السياسية على الأرض" كما جاء في بيان مكتوب لرئيس وزراء الحكومة التي تقودها الحركة في قطاع غزة إسماعيل هنية.
أما وصف هنية في بيانه ل"السياسة الأميركية" الجديدة – القديمة بأنها "تكريس الاحتلال وتشريع الاستيطان والاستسلام تحت شعار السلام"، وتعقيب الحركة في تصريح صحفي يوم الأربعاء الماضي على "الزيارة المحتملة" لأوباما إلى "المسجد الأقصى المبارك بحماية الاحتلال الصهيوني" بالتحذير من "خطورتها وخرقها للمواثيق الدولية بإضفاء الشرعية" على الاحتلال، فإنه وصف يمثل قاسما مشتركا يتجاوز أي انقسام فلسطيني ويرى في الولايات المتحدة شريكا فعليا في الاحتلال عن قناعة تتعزز يوميا ومع كل زيارة جديدة لأي مسؤول أميركي وبعدها في وجود سوء نية أميركية يظهر للشعب الفلسطيني مبيتا لتسليم فلسطين كاملة للحركة الصهيونية على طبق أميركي.
* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com