الميزانية الإسرائيلية بين التهديد والأمن
لم يسبق لأي حكومةٍ إسرائيلية أن فكرت في تخفيض ميزانية وزارة الدفاع، أو تقليص نفقات الدفاع والأمن فيها، بل تقوم كل حكومةٍ إسرائيلية جديدة برفع ميزانيتها، وإضافة بنودٍ جديدة لها، وإطلاق يد وزير الدفاع ورئيس الأركان لتطوير قدرات الجيش الدفاعية والهجومية، وتمكين الأجهزة الأمنية من تحصين الدولية، واختراق حصون الدول العربية وغير العربية، وهذا ما حدث بالضبط في ميزانية العام الماضي، إذ كانت ميزانية وزارة الدفاع هي الأضخم في تاريخ الدولة العبرية، ما يعني أن الميزانية العسكرية الإسرائيلية في ارتفاعٍ مستمر، وزيادة مطردة، بحجة أن الكيان الصهيوني يواجه أخطاراً حقيقية من بعض الدول العربية، ومن قوى وتنظيماتٍ "إرهابية" تستهدف وجودها، وتسعى لتهديد أمنها، والمساس بحياة مواطنيها، ما يوجب على وزارة المالية الإقرار دوماً بحاجة وزارة الدفاع إلى إضافاتٍ جديدة، واستثنائها من أي تقليصاتٍ أو إجراءاتٍ تقشفية تطال وزارتٍ وهيئاتٍ أخرى.
تعتبر الجهات الرسمية الإسرائيلية أن أي مساسٍ بميزانية الدفاع والأمن، يعني المساس بقدرة الجيش الإسرائيلي، وتعريض هيبته وتفوقه للاهتزاز، والتأثير على القدرات الاستباقية للجيش التي تقوم على نشاط وفعالية جهازي المخابرات الخارجية "الموساد" والاستخبارات الداخلية "الشين بيت"، وكلاهما في حاجةٍ إلى ميزانيةٍ سنوية كبيرة، تكون قادرة على تغطية نفقات واحتياجات الجهازين، لضمان الوصول إلى حصانةٍ أمنية عالية، وهو ما يحلم به وزير الدفاع الجديد موشيه يعالون الذي دخل الحلبة السياسية مهدداً بمواجهة تحدي الجبهات الشمالية والجنوبية، وتلك التي تستهدف الكيان كله من الجهة الإيرانية، لكنه يعلم أن عمليات جيشه العسكرية في المناطق مكلفة جداً، ولا يستطيع الجيش الاستمرار فيها في ظل أي تقليصات تطال مشترياته، أو تدريباته، أو نفقات الطلعات الجوية، وكلفة الأسلحة المستخدمة، والنفقات الجديدة للقبة الفولاذية.
وعلى الرغم من ذلك يبدو أن الكنيست التاسعة عشر ستتوقف لأول مرةٍ بجديةٍ أمام الميزانية الضخمة لوزارة الدفاع، والتي قد تزيد عن 8% من الميزانية العامة، وقد بدأ وزير المالية الإسرائيلي الجديد يائير لبيد، الذي وصل وحزبه بصورةٍ مفاجئة ولافتةٍ إلى قبة الكنيست والبرلمان، متجاوزاً الأحزاب القومية والدينية، وفق أجندةٍ شعبية، ومطالب حياتية، تتعلق بحقوق العمال والموظفين، وبحق المواطنين في المسكن والـتأمين، وضمان الشيخوخة ومستحقات نهاية الخدمة، وهو ما يتطلب ميزانياتٍ أكبر، واقتطاعاتٍ كبيرة من الوزارات الأخرى، ومنها الدفاع والاستيطان، لتأمين النفقات المتعلقة بالمواطنين الإسرائيليين، وحقوقهم في الرفاهية والرخاء، الأمر الذي ينبئ بمعركة حقيقية مع أطراف الإئتلاف الإسرائيلي الحاكم، الذي تتباين لديه الاهتمامات والأولويات بين الأمن والاستيطان، والتحدي النووي الإيراني المرعب لهم.
هل ستنجح اللجنة المشتركة التي شكلها الوزيران الجديدان لبيد ويعالون في تجاوز الأزمة، والوصول إلى صيغة وسطٍ تحقق الرفاهية، وتستجيب للمطالب الشعبية، وتبقي على التفوق النوعي الإسرائيلي، والذراع العسكرية والأمنية المتقدمة لهم، وتستجيب إلى رغبات نتنياهو ووزيره الغائب الموعود بوزارةِ الخارجية، أفيغودور ليبرمان، بتخصيص ميزانياتٍ كبيرة للتوسع في الاستيطان، وتحسين وتوسيع المستوطنات القائمة، ودعم اقتصادها، بسبب مقاطعة الاتحاد الأوروبي لمنتجات المستوطنات المختلفة.
يرى بعض المحللين الإسرائيليين أن الميزانية الإسرائيلية لهذا العام ليست ميزانية جيش، كما أنها ليست ميزانية مناعة داخلية، فإسرائيل لم تعد تواجه أخطاراً إقليمية من دول الجوار كما كانت قبل الربيع العربي، وجيشها ببنيته الحالية قادر على التعامل مع قوى المقاومة الفلسطينية وحزب الله، ولديه القدرة العالية لمواجهة أي أخطار تقليدية، وإن كانت كلفة المواجهة كبيرة، ولكنه لا يستطيع مواجهة الخطر النووي الإيراني، إذ لا يرده ولا يصده منعةٌ داخلية، ولا استعداداتٌ تقليدية للجيش، ولا يلزم مواجهته نفقاتٌ إضافية لوزارة الدفاع، وإنما عمل استخباري، وتعاونٌ أمني كبير مع الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي، الذي يتحمل جزءاً كبيراً من ميزانية المواجهة، وسيكون ملزماً بتسديد الفاتورة الأكبر للحرب، ولعل إسرائيل ستكون قاعدة متقدمة للولايات المتحدة الأمريكية ودول الحلفاء حال إقرار مهاجمة إيران، الأمر الذي يفرض على دول الحلفاء تمتين وتحصين جبهة المواجهة الأولى مع إيران، وستكون مسؤولة عن تطوير قدرات الجيش الإسرائيلي، وتوفير ما يلزمه على كل المستويات القتالية والمالية.
لكن هذا الفريق من المحللين الإسرائيليين يصطدم مع حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية قلصت ميزانيتها العامة، التي تعاني من ديونٍ بلغت 16.3 تريليون دولار، وطالت التقليصات وزارة الدفاع، وأبحاث الفضاء، وغيرها من مؤسسات الدولة الأمريكية المدنية والعسكرية، فكيف لدولةٍ تعتمد التقشف، وتضيق على مواطنيها، وتواجه مشكلة البطالة المخيفة، بركودٍ اقتصادي قد يكون أخطر وأسوأ، أن تدعم إسرائيل، وأن تقوي مناعتها، وتطور جيشها وسلاحها، فضلاً عن الاستعداد لخوضِ حربٍ تختلف بالتأكيد عن حروبها السابقة في العراق وأفغانستان، علماً أن الخزينة الإسرائيلية بحاجة إلى 17 مليار دولار لتغطية عجزها الكلي للعام 2013-2014، وهو ما لا تستطيع الحكومة الإسرائيلية توفيره في ظل الركود الاقتصادي العام، ولو لجأت إلى فرض ضرائب إضافية على العقارات وأصحاب الدخول العالية، كما أن المساعدة الأمريكية السنوية البالغة 3.15 مليار دولار قد تتأثر نتيجة للتقليصات العامة في الميزانية الأمريكية.
رغم هذا الجدل والنقاش العام الصاخب، يبدو أن الحكومة الإسرائيلية لن تتخلى عن ميزانية جيشها وأجهزتها الأمنية خوفاً مما ستواجه، لهذا يقترح مسؤولون فيها أن يشتمل التقليص تخفيض أجور موظفي القطاع العام، وتقليص 40% من مخصصات الأولاد، بالإضافة إلى إلغاء عدد من الإعفاءات الضريبية المعمول بها، والاكتفاء باقتطاع مليار دولار من الميزانية العسكرية، لتبقى المؤسسة العسكرية قادرة على مواجهة التحديات، وتتحقق لها الكفاءة والتفوق الذي يميزها عن غيرها من الجيوش.
لكن أليس من الممكن أن للإدارة الأمريكية التي نجحت في تمرير ميزانيتها المتقشفة، ونالت تأييد أعضاء الحزب الجمهوري قبل الديمقراطيين، رغم أنه كان من الصعب إجازتها، أجندةً سرية تتعلق بالحرب مع إيران، وبتنشيط ترسانتها العسكرية وتهيئتها وفق خططٍ سرية لمواجهة إيران، وهو الأمر الذي أقنع رئيس الحكومة الإسرائيلية بالإعتذار لتركيا، وإنهاء المشكلة العالقة معها، كي يكون والإدارة الأمريكية متفرغين تماماً لمواجهة الأخطار الإسرائيلية، مقابل تواصل دعم الجيش الإسرائيلي، وتطوير قدراته، وضمان تفوقه.