ميسرة أبو حمدية في قبضة جلاد لا يرحم

منذ شهور بدأت ملامح الوهن تدب في جسد الأسير البطل ميسرة أبو حمدية، من مدينة خليل الرحمن؛ معطوفة على الكثير من الآلام المبرحة. وكعادتها؛ لم تستجب سلطات الاحتلال لنداءات الأسرى من أجل الكشف عن حالته مبكرا، إلى أن بدأ يفقد صوته بالتدريج، حيث تم نقله للمستشفى من أجل إجراء فحوصات طبية.
في عهدة جلاد صهيوني لا يرحم، تكون رحلة الكشف الطبي أسوأ من المرض نفسه، وأكثر ألما من الآلام التي يعاني الأسير منها، وهو ما يدفعه إلى تجنب المطالبة بتحويله إلى المستشفى التي يُنقل إليها في سيارة بائسة عشرات الكيلومترات مقيد اليدين والقدمين. وفي المستشفى لا تتغير الإجراءات، إذ يبقى مقيدا طوال الوقت أيضا، وضمن حراسة مشددة.
هذه العملية لا تتم لأن الأسير سيكون قادرا على الهرب لو تم التعامل معه كإنسان، لكنها إرادة الاذلال وكسر الإرادة التي يتعمدها الاحتلال مع الأسرى في كل الأحوال، إذ أين سيهرب الأسير وسط كل تلك الإجراءات الأمنية، وحيث يمكن ملاحقته في أية منطقة من فلسطين المحتلة (بما فيها مناطق (أ) التي يقال إنها تخضع لسيطرة السلطة الأمنية)، ربما باستثناء قطاع غزة بعد خروج جيش الاحتلال منه.
عندما عُرض ميسرة أبو حمدية على الأطباء، وأجريت له الفحوص المخبرية، تبين أنه مصاب بسرطان الحنجرة، لكنهم لم يفعلوا له شيئا من الناحية العملية، إذ أعطوه بعض الأدوية وأعادوه إلى السجن، ولتبدأ حالته الصحية في التدهور التدريجي، وصولا إلى فقدانه النطق، وعجزه عن الحركة، الأمر الذي استدعى نقله من جديد إلى المستشفى الذي يتواجد فيه حاليا، فيما يبدو أنه في مراحله الأخيرة، تبعا للاهمال الطبي السابق؛ واللاحق أيضا.
ميسرة أبو حمدية، واحد من أبطال انتفاضة الأقصى، وهو بطل متميز لسبب بسيط هو أنه اعتقل وهو في العقد السادس، ويبلغ حاليا من العمر 63 عاما، ما يعكس إرادته الصلبة في استمرار النضال، هو الذي بدأ رحلته مبكرا في صفوف الثورة الفلسطينية وحركة فتح، وصولا إلى تدريبه لشبان من حركة حماس بعد عودته من الخارج مع من عادوا ضمن اتفاق أوسلو، ومن ثم انتقاله إليها في السجن قبل سنوات (حكم عليه بالسجن المؤبد). وهنا يتبدى الفارق بين حشد من ضباط الثورة الفلسطينية المنتمين إلى حركة فتح ممن لا يزالون على عهد التحرير، والذين لا زال كثير منهم يقبعون في السجون إثر مشاركتهم مع أبناء شعبهم إثر انتفاضة الأقصى، بينما خرج عدد منهم (أحيل آلاف منهم على التقاعد كي لا يفكروا في تكرار التجربة)، وبين آخرين رضوا بسياسة التنسيق الأمني، وقبلوا العمل في سلكها.
اليوم، يدخل ميسرة أبو حمدية، بحسب التقارير والمعلومات المتداولة مرحلته الأخيرة في مواجهة السرطان، لكن القتلة لا يلقون بالا لحالته، ويرفضون الإفراج عنه كي يقضي أيامه الأخيرة بين أهله وأبنائه.
من المؤكد أن القتلة هم المسؤولون عن وضعه الصحي، إذ يُجمع إخوانه على أن ما جرى له كان نتيجة الإهمال الطبي، وأن حالته لم تكن لتتدهور على هذا النحو السريع لولا تجاهل الاحتلال له شخصيا، ولعموم الأسرى فيما يتصل بالعناية الطبية.
لو وجد ميسرة أبو حمدية العناية الطبية، لكان الشفاء ممكنا، وأقله محاصرة المرض، لكنهم تركوا السرطان ينهش في جسده وصولا إلى هذا التدهور الخطير في صحته، والذي يشير إلى أنه في المرحلة الأخيرة.
مع ذلك لا يريد القتلة التكفير عن جريمتهم بالإفراج عن الرجل كي يعيش أيامه الأخيرة بين أهله وأبنائه، ما يستدعي وقفة من سائر مؤسسات حقوق الإنسان والإعلام من أجل إثارة قضيته، والتي لا تعنيه وحده، بل تشكل صرخة في وجه المحتل الذي يستهدف الأسرى بالإذلال والإهمال الطبي، فضلا عن سياساته الأخرى الكثيرة التي يعرفها الجميع، لاسيما الاعتقال الإداري الذي يشمل مئات من الرجال دون تهمة محددة.
في بيان القمة العربية جرت الإشارة إلى قضية الأسرى، ربما بسبب تفاعل قضية الأسرى المضربين عن الطعام، لكن الموقف لم يراوح الكلام إلى الفعل، وعلى الجميع الوقوف أمام هذه القضية على نحو جاد يليق بهؤلاء الأبطال الذي يقضون أعمارهم خلف القضبان.
نعلم أن الجراحات كثيرة، وأن مظالم مجرمي العرب، وفي مقدمتهم بشار الأسد تغطي على ما سواها، لكن الغزاة هنا لهم لونهم الخاص، إذ سرقوا أرضا وشردوا شعبا، واضطهدوا من تبقى منه بكل أشكال الاضطهاد، لاسيما حين رفع رأسه رافضا الخضوع والاستسلام.
ميسرة أبو حمدية يواجه الموت مقيدا بأغلال العدو الذي اعتقله لأنه يناضل من أجل حقوق شعبه، ولم يكتف باعتقاله، بل ترك الموت ينهش في جسده، وصولا إلى الحالة التي هو عليها الآن، من دون أن يستجيب لنداءات الافراج عنه، مع أنه يعلم أنه لن يعيش طويلا بعد استفحال المرض في جسده.
سلام على البطل ميسرة (أبو طارق)، وعلى الأحرار الذي يقبعون خلف القضبان، ونسأل الله أن يجعل ما عاناه ويعانيه في ميزان حسناته، وأن يجعل صرخات ألمه وإخوانه لعنة على الغزاة. ( الدستور )