الخضوع لسلطة الجماهير
تقدير الناس للمواقف والأحداث يختلف تبعا للخبرة التاريخية والثقافية فعند اضمحلالهما فإن الفرد يكون ميالا إلى الانقياد نحو العاطفة والغوغائية،والاستسلام لردود الأفعال وصفات أخرى سلبية ،لكن الظواهر الاجتماعية في صيرورتها وشدتها تعتمد على الكم لا الكيف فإن لمواقف عامة الناس وأرائهم سلطان مؤثر في البيئة الاجتماعية بصورة عامة ويبدو أن الناس حين تجتمع أعداد وفيرة منهم على رأي أو موقف يتولد من ذلك الإجماع قوة اقناعية متبادلة بينهم وقد كان الإعلام النازي مدركا لهذا من الجماهير ،ومن ثم فان هتلر كان يأمر بجمع الأعداد الهائلة من الألمان حين يريد إلقاء خطاب حماسي مهم وخلفاء هتلر مازالوا ملء السهل ؛
وقد علمنا القران هذه القضية منذ زمن بعيد {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } سورة سبأ 46 فالمناقشات والمناظرات العلنية تجعل الذين يتراجعون القول من الطرفين خاضعين بصورة ما للحاضرين وتوجهاتهم ومواقفهم ،ومن ثم فان القران الكريم يعظ الكفار أولا وكل من يريد استجلاء الحقيقة ثانيا أن يتفكروا فرادى ،أو في أضيق دائرة من الناس .
وعلاقة العامة بما يحيط بهم هشة وسطحية ومضطربة وذلك لعدم امتلاكهم قاعدة جيدة من المعلومات حول الأحداث والأوضاع ولاسيما الطارئة منها ولعدم امتلاكهم منهجا واضحا في التفكير ،ولضعف خبرتهم التاريخية ،ولذا فان التقلب والتحول من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار من سمات تفكير الجماهير !ربما لان الجماهير كم يفقد التجانس الجيد والتماسك الحسن فإنها تكون مرتعا خصبا لشائعات التي تطلق من هنا وهناك وهذا الذي يزيد الطين بله،إن اكبر مشكلة يواجهها قادة الرأي والفكر في تعاملهم مع الجماهير هي أن الفواصل التي تفصل بينهم متدرجة .. ومتنوعة تجعل الصفوة المالكين للقدرة على التفكير السليم واقعين تحت تأثير الجماهير بصورة من الصور مهما حاولوا الفكاك من ذلك .فقد واجه أل البيت مثلا على مدى صراعهم مع الحكام مشكلة الجماهير التي تحبهم وتدفعها عواطفها إلى مساعدتهم من لدن علي رضي الله عنه فأهل الكوفة ومن بعده الحسن والحسين وكذلك ترك أهل المدينة محمد بن الحسن وأخيه إبراهيم في أحرج ساعات المواجهة مع العباسين وفي معارك الزبير بن العوام مع الحجاج إن الجماهير تستدرج الخاصة حتى إذا جد الجد كان على الخاصة أن يدبروا حلا أو يواجهون الموت وحدهم.
وعدم الإحساس الدقيق بطبيعة الجمهور التي اشرنا إليها هو الذي يجعل الخاصة والمفكرين يعتمدون عليه ،لكن المشكلة الكبرى ندرة هذا الطراز الرفيع في المجتمعات وتجدهم يذوبون ويختفون مع أول صيحة انتخابات وأصبح العاقل مفتونا وتصبح مقالة علي رضي الله عنه (ولكن لا رأي لمن لا يطاع) لازمة تتردد على كل الأفواه .