العراق... طوفان الدم كافٍ لإقالة حكومات!
«لم يبق يوم من أيام الأسبوع العراقي خالياً من النعت بالدموي أو الأسود، حتى أمسى هناك الآحاد السود، آخرها 25 أكتوبر 2009، والجُمع السود، أولها مقتل محمد باقر الحكيم وثمانين أو يزيد معه (29 أغسطس 2003)، والسُّبوت السود منها 14 أبريل 2007 حيث كارثة كربلاء، إلا أن أكثر مسيل الدماء كان يُصادف الأربعاءات أولها 19 أغسطس 2003 تفجير دار الأمم المتحدة، وأفضعها 31 أغسطس 2005 تساقط الأجساد من على جسر الأئمة والضحايا أكثر من 1300 عراقي، والثلاثات الداميات وآخرها 8 ديسمبر 2009».
هذا ما ورد في مقال سابق في «الاتحاد» (16 ديسمبر 2009)، إثر كارثة ثُلاثاء ماضٍ، وبتداول الأيام تتداول الكوارث، فصارت الأيام والشهور داميةً كافةً. وحتى العام 2006 لا يتحمل المالكي وحزبه وائتلافه المسؤولية، فالجيش والأمن لم يكتمل تشكيلهما بعد، وربما وجود الأميركان كنافذين يُقيد حركته، أما بعد ذلك فالمالكي مسؤول عن طوفان الدماء.
إلا أن المشهد صار ثابتاً في الإعلام، فبعد كل كارثة يخرج رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع ووزير الداخلية ووزير الأمن ومدير المخابرات العامة المالكي متوعداً ومهدداً. لكنني لا أجد سخريةً أكثر من اللقاء الصحفي لأعضاء ائتلاف «دولة القانون»، وهم يردون على المطالبة بحضور صاحب الألقاب الخطيرة للسؤال داخل البرلمان، فقالوا: إذا حضر سيكشف الرُّؤوس! معنى ذلك أن رئيس الوزراء يعرف ويعزف عن فضح الفاعلين.
هل بالسكوت مصلحة وطنية؟ وأية وطنية بعد شلالات الدم؟! لكنها على ما يبدو كلام في كلام، ولم تكن الأولى فمنذ أعوام و«دولة القانون» يهددون بكشف الأسرار. هذا ويبقى قياس الوطنية لديهم هو القرب والبعد عن مكتب المالكي، والأمر لا يخص شيعة ولا سنَّة، إنما هي «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائْتلف وما تناكر منها اختلف» (صحيح مسلم).
وفي الحالة العراقية لم يصمد التآلف ولا التناكر على أساس الطائفة، فالتيار الصدري والمجلس الأعلى، وهما من لبة الشيعة، فما قصة تناكرهما مع المالكي! وأن تكتل المطلك من قلب السنة فما تناكره مع النجيفي، وأن شيروان و«التغيير» من رؤوس الكُرد، فما تناكرهم مع صحبهم الكرد؟!
لا تكابروا، التآلف والتناكر ليسا طائفيين، وإنما هي المصالح والسياسات، فإذا قيل: إن السنَّة لا يريدون المالكي لشيعيّته! نقول: ما قصة الشيعة الآخرين مع المالكي! وما قصة «أهل العراق» بالأنبار المتناكرين مع غيرهم وهم على مذهب واحد! لا تظلموا ضمائركم وتجعلوا الطائفية هي الأساس، إنما من الحق أن يحاسب المالكي عن الدماء، لأنه صاحب المناصب الخطيرة؟!
ليس لنا ائتلاف ولا تناكر مع المالكي، إنما لأنه المسؤول الأول ويتصرف بانتقائية، واُذكر بالآتي، عندما حوسب وزير التجارة السابق في البرلمان، فعجل المالكي بقبول استقالته حماية له، لكن عندما قدم وزير المالية الحالي استقالته قال المالكي: لا تُقبل إلا بعد محاسبته! لماذا؟ كذلك ما أن قدمت «المساءلة والعدالة» إدانة لرئيس القضاء، وهو من خاصة المالكي، ضرب الأخير كل القوانين وأقال رئيسها! وضرب كل أصول الدستور عرض الحائط وأقال محافظ البنك المركزي، بل أصدر قضاته أمراً معيباً بحقه!
المالكي يعيش بحلم تأبيد السلطة في زمن استثنائي، فالعراق يموج ويمور، والدماء تسفك والثروات يفسد بها، وعلى الحدود الغربية كارثة قادمة، لهذا فالظرف لا يسمح بما يحلم به المالكي، وذلك ما أدركه رئيس وزراء تونس حمادي الجبالي، وهو إسلامي أيضاً وأمين عام لحزب «النهضة»، لكنه تخلى عن حلم «النهضة» بقيادة تونس، ولأنه مهندس وميله للمهنية لا للأيديولوجية، أعلنها: إما التكنوقراط وإما هذه مفاتيح وزارتكم! لكن حلم المالكي شيء آخر، وهذه أربعة أعوام وهو يجمع بيده أخطر المناصب! أليس من حق الدماء المسفوحة والمتعرضين للإرهاب الضارب في عمق العاصمة بغداد، أن تسأل المالكي: كيف تكون الجرأة على الدماء بتعيين سمكري في منصب أمني خطير؟!
حدث أن تعرضت البقية الباقية من يهود العراق (يناير 1972) إلى الخطف، فذهب رئيس الطائفة مير بصري (ت 2006) إلى محافظ بغداد خير الله طلفاح (ت 1993)، ولما قال له الأخير: «ما شأني في القضية؟ ولماذا تراجعني؟»، رد عليه: «إنك محافظ بغداد ونحن أهل بغداد فمن واجبات وظيفتك أن تحافظنا!»، فرد طلفاح: «هذا منطق صحيح» (بصري، رحلة العمر)! أليس من حق الناس مطالبة من بيده أخطر المناصب لحمايتهم، وإذا كان يتعذر بمعرقلات فعليه ترك المسؤولية، ويقولها مثلما قالها الجبالي: لا أستطيع. مع أن حِمل تونس أخف كثيراً من حِمل العراق.
لقد كبر المالكي على بغداد، وربما وجد حوله من فخم ذاته، على شاكلة الحيص بيص (ت 574 هـ) مع ممدوحه: «ما أنصفت بغداد نائبها الذي/ كَبُرت نيابته على بغدادَ» (النجوم الزاهرة)! الدماء لا تحتمل هذه الفخامة الفارغة، مثلما ملت من شتم «القاعدة» وبقية البعثيين ودول الجوار، والعابثين بأمن البلاد، والكارهين لولاية المالكي، والمؤامرات التي تحاك، كل هذا موجود، لكن المسؤولية أولا وآخراً تقع على النواطير والحماة.
فهذا علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ) عندما عبث أهل الشام بالأنبار، لم يلق اللوم على الخصم بل ألقاه على جيشه، فقال وقد تقدم بنفسه، لا حبسها في الخضراء، وأحاطها بأكثر من مائتي مدرعة: «إن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقُلْبَها (سوارها) وقلائدها ورِعاثها (القرط) ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجل منهم كَلْمٌ، ولا أُريق له دمٌ... فقُبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يُرمى» (نهج البلاغة). إنها المسؤولية.
وفي الختام، آهاتنا على طفل بُترت رجلاه، وبقال اختلط دمه بنقيع الطماطم، وتلميذ لم يعد لأمه سوى رماد دفاتره، وهذا ما عكسه الشاعر الحِلي المطبوع موفق أبو خمرة: «سأزور الشُّهداء القديسين، وأراهم يفركون راحاتهم ندماً، فقد قُتلوا من أجل أن يتربع شعيط ومعيط على صدورنا». وأقطع الطريق على من يريد النيل من هذا الشاعر، فله أيام السابقين(1996): «أسمعت عن هذا القصاص، شعبٌ يُسعر في جهنم، ثم يُطفئ بالرصاص». أقول: ألا إن الدماء النازفة والمخاطر المحدقة كافية لإقالة مئة حكومة وحكومة!