البنطال الساحل وأولويات الأمن الوطني
لا شك بأن عوامل إنجاح أية حملة أمنية في تحقيق أهدافها تعتمد في الأساس على المواطن حيث انه لا يمكن لأية حملة ,وأي كانت تلك الأهداف المرجوة منها أن تنجح دون مساعدة ومساندة من المواطن نفسه ,ولذلك فان كافة المؤسسات الأمنية أي كانت ,وعلى اختلاف تخصصاتها وتفرعاتها تسعى جاهدة لامتلاك قلوب المواطنين ومحبتهم وصولا إلى تلك المساعدة والمساندة وفقا لما تتطلبه الدولة في تحقيق أمنها القومي, لأنه لا يمكن للأجهزة الأمنية أن تمتلك قلوب الناس ومحبتهم لإنجاح حملاتها الأمنية دون إيجاد نوع من العلاقة التكاملية والتبادلية ما بين رجل الأمن والمواطن , ذلك لان الأول يعتمد على ما يقدمه من مساعدات وخدمات للمواطن,وفي الوقت ذاته فان المواطن يعتمد على ما يقدمه له رجل الأمن أيضا من عون ومساعدة , وعليه فانه لا يمكن للمؤسسات الأمنية أن تحقق أهدافها النبيلة دون مساعدة ومساندة من المواطن ,كما أن المواطن لا يستطيع بطبيعة الحال توفير قدر من الأمن والطمأنينة لنفسه ولأسرته دون الاعتماد على رجل الأمن وخاصة إذا ما تعرض لجريمة ,أو حالة من الشعور بالخطر.
إن خلق حالة من التكامل والتبادل ما بين المواطن الفلسطيني ورجل الأمن تتطلب العمل على ضرورة التوافق على إستراتيجية أمنية موحدة ,وقبل القيام بأية حملة أمنية لان تلك الحملات و على اختلاف أنواعها وأهدافها ستكون محمية حتما من المؤثرات الحزبية في ظل التوافق الأمني, وعليه يمكن القول ,وعلى سبيل المثال أيضا, بان حملة مكافحة التخابر كانت بمثابة المقدمات المشروعة نحو تحقيق صياغة إستراتيجية موحدة لما في تلك الحملة من امتلاك لقلب المواطن وانتزاع محبته وكسب مساندته ومساعدته ,ولذلك كنا قد شكرنا في مقال سابق القائمين على تلك الحملة ,ولم يكن ذلك الشكر الموجه لهم نابعا فقط من عاطفة المواطن وإيمانه بمقاومته وضرورة حمايتها من جريمة التخابر , إلا انه سرعان ما تبددت آمال المواطن في تحقيق ذلك بفعل حملة ما يسمى مكافحة البنطال الساحل لما في تلك الحملة من الانزلاق بعيدا عن تحقيق أولويات الأمن الوطني .
إن حملة مكافحة التخابر هي من أولويات حماية الأمن الوطني ,ولذلك فهى حملة الإجماع الوطني ,وليست حملة حزب أو حركة أو مدينة نظرا لسمو أهدافها دونما البحث في جدلية العلاقة ما بين المواطن ورجل الأمن وبعيدا عن جدلية التكامل والتبادل أيضا فيما بينهما ,لان حرص المواطن على مصالحه الشخصية ومصالح مجتمعه وحماية مقاومته ودولته الوليدة تجعله في مكانة تضاهي كافة المؤسسات الأمنية على اختلاف اختصاصاتها في إنجاح تلك الحملة على الرغم من التباينات السياسية ,وما تفرضه الاختلافات الفصائلية والحزبية انطلاقا من مبدأ حماية الأمن الوطني الفلسطيني والوقاية من أية مؤثرات داخلية وخارجية قد تستهدف الأمن الفلسطيني, لان جريمة التخابر وما تشملها من أخطار لا تحمل انعكاسات على حركة حماس فحسب, بل إن تلك الانعكاسات تشمل كافة التراب الوطني الفلسطيني بغض النظر عن الانقسام وما أحدثه من إفرازات من بينها صدام الشرعيات الثورية والدستورية .
دراسات كثيرة وتجارب كبيرة أثبتت عجز الأجهزة الأمنية في الوصول إلى تحقيق أهدافها دون مساعدة ومساندة من المواطن وخاصة إذا ما اقتنع المواطن بدافع تلك الحملة وأهميتها ,وما تحمله من بعد وطني بعيدا عن أية معوقات ,ولذلك فان على وزارة الداخلية في الحكومة المقالة أن تدرك بان أية حملات أخرى لن تجد الدعم والالتفاف المادي والمعنوي بقدر التفافهم حول حملة مكافحة التخابر ما لم تستند تلك الحملات على ميثاق وطني شامل بما يشمله من إستراتيجية أمنية موحدة وبعيدا عن محاولات أي فصيل أو حركة فرض رؤيتها وتصوراتها كما يحدث في ما يسمى بحملة مكافحة البنطال الساحل رغم تملص وزارة داخلية الحكومة المقالة من مسئوليتها عن تلك الحملة والإشارة بذلك إلى الكتلة الإسلامية ,وهذا ما يحمل مؤشرا أكثر خطورة من تبني وزارة الداخلية نفسها لتلك الحملة لأسباب قد نتطرق إليها في موضوع لاحق.
صحيح بان هناك إجماعا لدى الكل الفلسطيني على أهمية حملة التخابر نظرا لما تحدثه جريمة التخابر من انعكاسات خطيرة على الأمن الجماعي كما أسلفنا سابقا ,وصحيح أيضا بان الأجهزة الأمنية الفلسطينية تختلف عن باقي نظيراتها من أجهزة الأمن العربية من حيث عقيدتها, إلا أن ذلك الاختلاف يجب أن يجعلها في تميز عن غيرها لانتزاع محبة المواطنين والتفافهم وليس لخلق حالة من العداء والتنافر نتيجة لبعض الحملات الغير مبرر أن تتدخل الأجهزة الأمنية القيام بها كما حدث وفقا لروايات شهود عيان عن حملة ما يسمى مكافحة البنطال الساحل .
هناك الكثير من الإجراءات والتدابير التي يمكن للحكومة في غزة أن تقوم بها سواء على صعيد الوقاية ,أو على صعيد المواجهة من أجل حماية الأمن الإنساني والوطني في هذا الجزء العزيز من الدولة الفلسطينية. تتجاوز مسالة البنطال لأنها أكثر مساسا بالأمن الوطني الفلسطيني من ظاهرة بنطلون ساحل وقصة شعر رغم الاشمئزاز الفردي والجماعي من تلك الظاهرة التي غزت المجتمع في ظل عدم تحصين المجتمع من الغزو الفكري نتيجة للثورة التي أحدثها عالم التكنولوجية وغياب مقومات الحفاظ على أمننا الوطني في ظل الانقسام وصراع الشرعيات الاخد بالتطور ,ففي حملات مكافحة البنطال الساحل وما يشابهها يتولد التنافر والتباعد ما بين رجل الأمن والمواطن,وما المادة الإعلامية التي بثتها العديد من المواقع الإعلامية حول ضرب مدير مدرسة لطالب على قصة شعر في ظل التواجد الأمني إلا مثال حي على إحداث ذلك التنافر وفقا لما أثير من استهجان واستنكار واسع للفعل وأطرافه, بينما نجد أن الحملات النوعية كحملة مكافحة التخابر نخطو نحو التكاملية والتبادلية ما بين رجل الأمن والمواطن ,وهي نفسها مقدمات لإيجاد إستراتيجية أمنية موحدة.
المطلوب الآن وبشكل عاجل أن تتملص وزارة داخلية الحكومة المقالة في غزة عن ما أشيع عن الحملة الأخيرة وعلاقتها بها وايلاء الأهمية لحملة مكافحة التخابر كأولويات هامة لتحقيق الأمن الوطني , مع ضرورة العمل وبشكل متوازي مع تلك الحملة على إيجاد آليات عملية لتنمية العلاقة التكاملية والتبادلية ما بين رجل الأمن والمواطن من خلال العمل على تشكيل لجنة من خبراء الأمن وأساتذة الجامعات وبعض الشخصيات المستقلة للنظر في عقيدة تلك المؤسسات الأمنية مع عقد ورشات عمل لصياغة الإستراتيجية الأمنية الموحدة بعيدا عن المحاصصة في تلك الورشات للحيلولة دون تأثر هؤلاء بما تحدثه خطابات القيادات الحزبية على الإستراتيجية الأمنية التي يتفق عليها الجميع, ومن ثم العمل على تحقيق إزالة الحاجز النفسي ما بين المواطن والمؤسسة الأمنية من خلال المصالحة المجتمعية والوطنية مع إقامة الندوات ودعوة الباحثين ورجال الإعلام وكذلك المثقفين لدراسة وتحليل المشكلات الاجتماعية ,مع إشراك المواطنين في تلك الدراسات واقتراح الحلول اللازمة لها من خلال الندوات المباشرة ,أو من خلال المدارس والجامعات بهدف تعميق شعور المواطن لوطنه وقضيته مع ايلاء الأهمية للتنسيق مابين وزارة الداخلية ووزارة التربية والتعليم لادخال كل ما يتعلق بمفهوم الوعي الأمني كآليات جادة نحو تحقيق العلاقة ما بين المواطن والأجهزة الأمنية في مجال الوقاية من الجرائم , وليس من اجل ترهيب الطالب وخلق حالة من العداء فيما بينه وبين رجل الأمن على أن يضطلع بتلك المهمة لجنة من رجال الأمن الأكفاء.
لقد اثبت الحراك الشعبي في بلاد ما يسمى الربيع العربي بان عدم الانسجام وسوء العلاقة ما بين المواطن ورجل الأمن هي المقدمات الأولى لما يحدث من صراع دائر الآن وسببا مباشرا في تأزيم حدة الصراع وتدويله ,ولذلك فان على القيادة الفلسطينية بكافة أطيافها أن تتجه فورا نحو صياغة الإستراتيجية الأمنية الموحدة على قاعدة الشراكة الوطنية فهي مطلب وطني لمواجهة التحديات المفروضة لنمو دولتنا الوليدة وحمايتها من المؤثرات الداخلية والخارجية للحفاظ على آخر ما تبقى من معالم ثورة ومقاومة بعيدا عن المواقف السياسية المتباينة, فهل يمكن للأجهزة الأمنية أن تتجه نحو تحقيق التوافق على إستراتيجية أمنية موحدة تهدف إلى حماية الأمن الوطني الفلسطيني ؟,ففي ذلك مقومات لمساندة أية حملة وإنجاحها, أو أن هناك إصرار بحصر الحملات الأمنية على امن الحركة ومؤسساتها؟ وفي ذلك أيضا معوقات لأدائها.