العشائرية والدولة في فكر جلالة الملك
تعود العشائرية في جذورها إلى ما قبل القروسطية، أي انها خارج روح العصر، وبالتالي فهي حالة رجعية ، لم تعد تتلاءم مع ما يفترض من التطور الاجتماعي والسياسي السائد في البلد، ومن شأنها أيضا أن تعيق المساعي الوطنية التي تبذل لتطوير مجتمع "مدني" يقوم على المواطنة ، الأمر الذي يجعل التسليم بوجودها والتحالف معها أمراً محرجاً من الناحية الحضارية.
لا تعتبر العشائرية من مظاهر الطبيعة العمياء، بل هي خلق إنساني مستند إلى روابط نفسية كلاسيكية أساسها التجميع العصبوي القائم على مصالح شخصية، (بغض النظر عن صغرها او كبرها).
في المجتمع "المدني"، بمفهومه الحديث، تقوم العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الأفراد وبينهم وبين الدولة على أساس عقد اجتماعي حر، تتحدد بموجبه حقوق المواطنيين وواجباتهم والقوانين والشرائع التي تنظم وجودهم الاجتماعي وسلوكهم السياسي والاقتصادي. فهو إذا مجتمع الأفراد الأحرار المتساوون أمام القانون، وهو مجتمع تسوده قيم ومعايير قبول الآخر المختلف، وتعدد الآراء والأفكار، وحل الصراعات والخلافات قانونيا. أما في المجتمعات الأهلية (مثل المجتمعات العشائرية والطائفية) يكون الفرد مندمج اندماجاً عضوياً في عشيرته أو طائفته وانتماؤه إليها قسري، فلا يملك حق نقدها أو مخالفتها، وكل خروج على أعرافها يضعه زعمائها في خانة التكفير والعصيان، فالقيم والمعايير والأعراف والأنظمة مفروضة فرضاً، لا خيار في قبولها أو رفضها. ولا تعترف العشيرة بالفرد وحريته (الحرية الشخصية)، ولا تُراعى المساواة بين أعضائها، فهي قائمة على مراتبية طبقية.
فتركيبة المجتمعات الأهلية تشكل، أياً يكن شكلها، إرباكاً لقيام المجتمع المدني ونهوضه على أسس حديثة، وتعيق تشكل الفرد بفكرة الليبرالي الحر والذي هو أصل المجتمع المدني وأساسه.
أن الخلاص من العشائرية ، ومواجهة ما تفرزه من مظاهر التخلف وبعث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، هو مسؤولية كل القوى الوطنية الحية والمتنورة والمؤمنة والمقتنعة بهويتها الوطنية، ومسؤولية مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات وغيرهما من القوى التي تنادي بقيم العدل والمساواة والتسامح والتعددية، وإقامة مجتمعات ديمقراطية تقوم على أساس المواطنة الكاملة بعيداً عن الجنس والدين والطائفة والعشيرة والمنشأ الاجتماعي.. تصان فيها الكرامة والحرية الشخصية، وتمارس فيها الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة ، ويسود فيها القانون والمساءلة والمحاسبة وغيرها. هذا النضال (برأي الكاتب) لن يؤتي أكله وثماره إلا من خلال مناهج تعليمية وتربوية تؤسس لبنية مجتمعية تقوم على أساس فهم وتربية وطنية تحمل فكرا معاصرا ، تبدأ من مرحلة المدرسة إلى مرحلة الجامعات. فبدون ذلك فإننا سنبقى غارقين في ثقافة الجهل والتخلف ، هذه الثقافة التي لن تنتج مجتمعات حضارية.
مع تأسيس الدولة الوطنية الحديثة بركائزها الوطنية القائمة على حكم القانون وسيادته لم يعد للتكتلات العشائرية وأدوارها ( أجابية كانت أم سلبية) أي أهمية، بل أمست حجر عثرة أمام التطور الاجتماعي والاندماج والوطني وإرساء أسس المدنية. حيث تعد العشائرية اليوم من التشكيلات السياسية- الاجتماعية المضادة لحركة التاريخ.
فبينما ترنو مملكتنا الأردنية الهاشمية بقيادة جلالة الملك عبداللة الثاني إلى ترسيخ أسس الدولة الوطنية الحديثة، بأدواتها وفكرها، لا تزال العشائرية تتحكم بجزء من مسار تقدمها ، وتعرقل عملية الانتقال إلى المجتمع المدني، وتؤخر عملية تكوين مجتمع وطني موحد جميع (الأردنيين) فيه مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات.
فحتى يتحقق مفهوم الدولة الوطنية الحديثة كاملا، على المواطن الأردني أن يكون انحيازه أولا للوطن، وانتماءه أولا للدولة، ولا يحتمي بالعشيرة بديلا عن الدولة والقانون.