نداء إلى أهل الثورة
خطابي هذا موجه إليكم أنتم أيها الثائرون على نظام البغي والإجرام في سورية، والمتبرؤون من أفعاله وقبائحه.
هناك متطلبات أساسية لإسقاط النظام و- الأهم من ذلك - لبناء سوريا بعده.
وعلى رأس هذه المتطلبات قدرتنا على التواصل والتفاهم والعمل المشترك في الدوائر العامة التي لا نختلف فيها.
إن هناك تباينًا لا يمكن تجاهله في صفوفنا:
منا المتمسكون بدينهم، ومنا المفرطون فيه ... وبينهما درجات.
ومنا من لاقى صنوف التضييق والأذى من النظام قبل الثورة، ومنا من كان منتفعًا من النظام بإظهار الولاء له والانتماء لحزبه ... وبينهما درجات.
ومنا من ناصر الثورة من أيامها الأولى مجازفًا بكل شيء، ومنا من لم "ينشقّ" إلا بعدما ترجح لديه نهاية النظام ... وبينهما درجات.
ومنا من يبذل روحه ومهجته وماله لنصرة الثورة، ومنا من يكتفي بالتأييد "السكوتي" للثورة ... وبينهما درجات.
وهذا التباين ليس بدعاً في البشر، بل ذَكر الله التباين بين المسلمين في قوله { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِۦوَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَٰتِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ} ، ولاشك أن هؤلاء المتباينين لا يستوون عند الله ولا عند الناس، فإذا كان الله ميّز بين طائفتين كلّهم جاهدوا وأنفقوا "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا" فكيف بمن كان التباين بينهم أشد؟
إلا أنه لامناص لنا جميعاً - نحن أهل الثورة - من التواصل، والتفاهم، واعتراف بعضنا بوجود البعض الآخر، وإنّ أيّ سلوك من بعضنا - اعتداداً منه بقوته، أو تاريخه، أو كثرة أتباعه - لإلغاء البعض الآخر أو تهميشه أو إقصائه، يضرُّ بنا جميعاً، ويؤخر نصرنا على عدونا، ويشغلنا بأنفسنا بدل أن ننشغل بما فيه خيرنا وصلاح مجتمعنا.
وهاكم ثلاث مقدمات هي من صميم منهجنا الإسلامي الأصيل، لعلنا نستعين بها على إيجاد مناخ نفسي يساعد على كسر الحواجز بيننا وتعزيز التواصل في هذه المرحلة العصيبة:
1- أنّ الله يعذر الناس بأعذار كثيرة، يعذرهم بالجهل، والخطأ، والنسيان، والإكراه، والتأويل، فليعذر بعضُنا بعضاً بما عذرهم الله به حين نجد إلى ذلك سبيلاً، وحين يشتبه علينا الأمر، فلأَن نخطئ في العفو خير من أن نخطئ في العقوبة.
قبل فترة حضرت في أحد المخيمات التركية مشادة بين شاب في العشرينيات ورجل قارب الستين، وكلاهما يقوم بعمل نافع في المخيم في مجال من المجالات الحيوية التي يحتاجها اللاجئون. فلما احتدم النقاش بينهما عيّر الشابُّ الرجلَ الكبير بأنه كان عضواً بارزًا في حزب البعث.
نحن - السوريين - نعلم أن الانتساب إلى حزب البعث كان مغرياً جدًّا، وفي كثير من الحالات تُحرم من حقوقك إن لم تكن منتسباً إليه.
نعم، هناك أناس أصحاب مواقف مبدئية رموا بكل هذه الإغراءات وراء ظهورهم، وفضلوا أن يُحرموا من حقوقهم على أن ينتسبوا للحزب، لكن - أمام المغريات التي يقدمها الحزب – ليس كل من انتسب إليه سيئاً لا خير فيه.
يقول نلسون مانديلا في رسالة وجهها إلى الثوار العرب:
"يبدو لي أن الاتجاه العام عندكم يميل إلى استثناء وتبكيت كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة...
أنا أتفهم الأسى الذي يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة، إلا أنني أرى أن استهداف هذا القطاع الواسع من مجتمعكم قد يسبب للثورة متاعب خطيرة ..
عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلد، فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة، ثم إنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر أو تحييدهم نهائياً".
وختم رسالته بقوله: "أتمنى أن تستحضروا قولة نبيكم: اذهبوا فأنتم الطلقاء".
2- أن خلافاتنا وتبايننا لا تمنعنا من التعاون فيما هو مصلحة مشتركة لنا، فالتعاون مداره على الموضوع لا على حال الناس، فما كان مصلحة وبرًّا وتقوى فنحن مأمورون بالتعاون فيه {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ، لو دعيت به في الإسلام لأجبت ، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها ، وأن لا يعد ظالم مظلوماً"
وبين الأطياف المتباينة من أهل الثورة مجالات كثيرة للتعاون هي من البر والتقوى، وإن مرحلة بناء الدولة لا يطيقه فصيل واحد مهما بلغ، ومالم يقبل بعضنا البعض الآخر ويتعاون معه فستفوت مصالح كثيرة ويعود الضرر في ذلك علينا جميعاً.
3- كثير من خلافاتنا – عند التحقيق – خلافات سائغة لا تثريب فيها على أحد. وحين يكون الخلاف سائغاً فإن صاحبه لا يُؤثَّم ولا يُفسَّق، بل يُصحّح فعله والآثار المترتبة عليه، بل ربما ساغ تبنّي رأيه حين يكون في الرأي الآخر حرجٌ وعنت.
يا أهل الثورة، تراحموا فيما بينكم عسى أن تدركنا رحمة الله، فـ " الراحمون يرحمهم الرحمن "
اللهم ردّنا إلى دينك ردّاً جميلاً، وأصلح ذات بيننا، واهدِ ضالنا. آمين.