بلادي بين العَزْل والغَزْل!
هل لي أنْ أصِلَكِ يا مدينةَ بيسانَ العتيقة، دونَ أنْ أتَخَطّى سِجْنَ شَطّة؟
يَنقَبِضُ قلبي ويَنكَمِشُ، كُلّما لاحَتْ لي أسْوارُهُ الشائكةُ مِن بَعيدٍ، وتُسارعُ سيّارتي هاربةً منهُ، ومِنْ كُلِّ السّجونِ الأمْنيّةِ، وأبراجُ المُراقَبةِ تُلاحِقُني، حيْثُ يتَمَسْمَرُ في كُلٍّ منها سَجّانٌ ورادار، وكأنّما أصواتُ وصَرخاتُ وتَأوُّهاتُ أسْرانا تتبادَرُ إلى مَسامِعي تَسْتَنْجِدُ، وما مِنْ مُجيب!
ما هُوَ السّجنُ؟ هل السّجنُ هو المكانُ الّذي يُحتجَزُ فيهِ الأسيرُ، فيَجْعَلُهُ مَسْلوبَ الإرادة والحَركةِ؟
يَقولُ الكاتبُ عبدُ الرّحمنُ مُنيف في روايتِهِ "في شرق المتوسط مرّةً أخرى":
"السّجنُ ليسَ فقط الجُدرانَ الأربعةَ، وليسَ الجلّادَ أو التّعذيبَ، إنّهُ بالدّرجةِ الأولى خوْفُ الإنسانِ ورُعبُهُ، حتّى قبلَ أنْ يَدْخُلَ السّجنَ، وهذا بالضّبطِ ما يُريدُهُ الجلّادونَ، وما يَجْعلُ الإنسانَ سَجينًا".
ياه.. كَمْ تَغُصّ مُجتمَعاتُنا مَسلوبةُ الإرادةِ بسُجونِ الحياةِ، المُكبّلةِ بالخَوْفِ والنّفيِ والقتلِ والخطفِ، وتَشليح الإنسانِ مِن إنسانيّتِهِ، بوحشيّةٍ لا تَليقُ حتّى بالوحوش؟
حتّى للحَيواناتِ وللأحياءِ مَحْمِيّاتٌ في الطبيعة، يُقدَّمُ لها الرّعاية والاهتمام والدواء والطعام، ويُخالَفُ كلُّ مَن يعتدي على حرمةِ هذه المحميّاتِ وتلك الأحياء، فمَن يعملُ على حماية الأسرى في السجون وفي المعتقلاتِ؟
هل السجن هو نوعٌ مِن أنواع العقوباتِ الجزائيّة وفقًا للقانون، يَسلبُ حرّيّة البَشرِ بمَوْجبِ حُكمٍ قضائيّ وإداريٍّ من سُلطةٍ مُخوّلةٍ باحْتِجازِهِمْ، كإجراءٍ وقائيٍّ تقومُ بهِ الجهاتُ الأمنيّة، حتّى الانتهاء مِن تحقيقاتِها وإجراءاتها بحبْسٍ احتياطيٍّ، تحفُّظيٍّ، أو اعتقالٍ وقائيٍّ؟
لكن؛ حين يُعتقلُ شخصٌ ما تعسّفًا وظُلمًا دون إثباتِ جريمتِه، بل بتقديرٍ مِن السُّلطة أنّهُ يُشكّلُ خطورةً أمنيّةً عليها، وتُساويهِ بمجرمٍ فِعليٍّ ارتكبَ جريمة، وتُنفّذُ فيهِ العقوبة بسنواتٍ طوال أو مُؤبّد، ألا يتحوّلُ السجنُ إلى لحدِ حياةٍ، تُدفنُ فيهِ الأجسادُ حيّة؟
مِن المفروض إعدادُ السجون بشكلٍ صالح لإيواءِ المساجين، وتَهيئة الظروف الصحّيّة لهم، بعيدًا عن التعذيب والتنكيل بهم!
لكن؛ هل السجونُ الأمنيّة التي تغصُّ بالأسرى تتمتّعُ بهذه المواصفات؟
هل مِن رقابةٍ حقيقيّةٍ صادقةٍ مِن جمعيّاتِ حقوق الإنسان؟
لماذا يُخرَجُ معظمُ الأسرى شبهَ أمواتٍ وبإعاقاتٍ جسديّةٍ ونفسيّةٍ بعدَ الأسر، وبعضُهم على نعوش المَرض؟
هل يهمُّ المناضل البطل كونه داخلَ السجن أو خارجِه؟
هل يهمّه مع مَن يتعايش في السجون ليتكيّفَ، ويعرف كيفَ يُتابع النضال؟
كم مِن سُجناءَ تسكنُهم الآمالُ، أبَوْا إلاّ أن يتعلّموا ويتثقفوا، ولا يُفوّتوا لحظاتِهم المريرة إلاّ بتجميلها بالمثابرة، وتحليتها بسُكّر طموحاتِهم ببناء الذات، على أمل التحرّر مِن أكبالِهم وتأبيداتهم!
كم موجعٌ أن أمرَّ بأعرق مُدنِكِ فلسطين، لأعاينَ لافتةً مهجورةً هزيلةً بُحَّ صوتُها تنادي:
ها أنذا أريحا أحبّائي، موصدةٌ أبوابي أمامَ حنينكم، بالركام والصخور سدّوا شوارعي وصدّوها، وتركوا فوّهةً واحدةً تتأجّجُ بحواجزَ أمنيّةٍ تشلّخُ أعصابَكم، وتُجرّدُكم مِن صفائِكم!
وتلكَ جنين تبعدُ ليس أكثر مِن نصف ساعة عن الناصرة، يَستغرقُ عبورُ حاجزها أكثر مِن ساعتيْن لحوافلَ إسرائيليّةٍ تحملُ مواطنيها العرب، ويُجرى عليهم الفحصُ الأمنيّ والتفتيش، تمامًا كما يَجري على مَن تعتبرهم أعداءَها في الضفة!
إذًا؛ ما هي الامتيازات التي حظيَ بها مواطنو "إسرائيل" العرب؟
عندَ حقوق المواطنة أتساءل: ما الفرق بين مواطن فلسطينيّ يتوجّهُ إلى الحاجز مباشرة للوصولِ الى مدينةٍ أخرى، وبين آخر يَفرضُ عليه الاحتلالُ الالتفافَ والدورانَ حول نفسِهِ ساعاتٍ للوصولِ إلى النقطةِ نفسِها؟
أليس بهذا الإجراءِ دمجٌ حقيقيٌّ للفلسطينيّين داخل فلسطين المحتلّة عام 48، في نفس سياسةِ العقاب والعنصريّة والتعجيز التي يتلقاها سكّان الضفّة الغربيّة؟
هل هو نوعٌ مِن سياسةِ العزل تُمارسُها "إسرائيل" ضدّ مواطنيها العرب عن إخوانِهم في الضفّة الغربيّة؟
لماذا يجبُ أن يقفَ المقدسيّ بالساعاتِ على حاجز قلنديا؛ المدخل الرئيسيّ لمدينة رام الله ومتنفّسِها إلى المدن الأخرى، ليدفعَ فاتورة تواصُلِهِ مع عُمقِهِ الفلسطينيّ؟
ألسنا بصددِ سجنٍ كبيرٍ وزنزانةٍ تضمّ في حشوتِها السجون الصغيرة المُحاطة بالجدران والحواجز والأسلاك الشائكة؟
ومع أحداثِ تحرير الأسرى المتوالية، تتراقصُ القلوبُ، تتراكضُ وتتلاحقُ خفقاتها تلهجُ بالدعاء، والعيون المترقبة تغصّ بحرارةِ اللقاءِ الدامع مع الأمّهات والزوجاتِ والعائلاتِ والأصدقاء، تتشابكُ الأيدي في عناق شائقٍ لا يُفلتُهُ ظلامُ السنين ولا ظُلمُ السجون، كأنّما تُحاولُ أن تُعوّضَ أجملَ لحظاتٍ مزّقتها الأيّامُ السوداء، ويُلوّحُ ببسمتِهِ الفرحُ صادحًا:
بين حاجزٍ وحاجزٍ يكمنُ فجرٌ فلسطينيٌّ جديد!
بين مدينةٍ ومدينةٍ ثمّةَ حصارٌ للروح، لا يَفكُّها إلاّ إيمانُ وعزيمةُ أهلِها.
بينَ الأمسِ واليوم والغد تترسّخُ حكايةُ وطنٍ مُتحِدٍ، لا تهزُّهُ الهزائمُ ولا الولائمُ، وطنٌ تنبضُ الآمالُ في جبالِهِ، وبينَ ضفّتيْهِ، وفي أرواح أبنائِهِ وشهدائِهِ وسجنائِهِ، هذا الوطنُ الختيارُ خالدُ الشباب، تتفتّحُ فيهِ فلسطينُ كأوراق الورد والبيلسان في بساتين أفراحِنا، وفي حقول عطاءاتِنا وتضحياتِنا، ويفوحُ أريجُها في صمودِ نوّار اللوزِ في أعماقِنا الإنسانيّةِ، وفي جذورِنا الوطنيّة!
لكن؛ مسلسلُ القضيّة لا زالت نهايتُهُ مفتوحة، وتبقى قضيّةُ الأسرى والمُبعَدين عن الوطن تختزلُ شعبًا قائمًا، دخلَتِ السّجونُ إلى غرفِ نومِهِ وأحلامِ أطفالِهِ، وانتزعَتْ أبناءَهُ إلى غياهبِ العتمةِ والمَصيرِ المَجهول، ويبقى الأملُ يُلامس عتابَ الأمّهاتِ والزوجاتِ والأخواتِ، الّلواتي مصّ صقيعُ الانتظارِ عِظامَهنّ على أبواب السّجن، حالِماتٍ برؤية فلذاتِ أكبادهنّ وأزواجهنّ، لبرهةٍ تُبدّدُها أحلامُ الكبار والأسيادِ على طاولةِ المفاوضات، ويبقى الأملُ بقيادةٍ، تَحتَكِمُ لِروحِ هؤلاءِ الّذين غيّبَهُمْ ظلامُ السّجنِ والاعتقالِ، عن حقوقِهِم الإنسانيّة، وعنْ حُقوقِهِمِ الوَطنيّةِ، برؤيةِ الشّمسِ والوطن!
فهل ستنظرُ القيادةُ إلى قضاياهُم مِن نافذةِ الأسرى، أم ستبقى تُصَوِّبُ أنظارَها إلى سرابِ الوُعودِ والأُمنيات؟