حزيران بنكهة الهزيمة
تحلّ علينا في كل عام ذكرى مريرة , تُمزّق قلب كل عربي ومسلم ، ذكرى أليمة في تاريخ , الأمة المثخن بالجراح ، فهي محطة ظلام كبيرة , ولطخة عار في جبين امتنا, قصمت ظهر العرب , وحنت رؤوسهم , وأذلّت أعناقهم منذ الخامس من حزيران عام 1967, وحتى يومنا هذا , عندما لم يجد الشعب العربي وراء الجعجعة طحنا , ولم ير وراء الزئير ليثا ! وتبخرت كل التهديدات والتصريحات , وتبددت كل الأماني والأحلام ! وبات العرب والمسلمون في العالم كله ناكسي الرؤوس , دامعي العيون , من ذل الهزيمة , وعار الفرار لا تغسلها سوى جحافل التحرير المنتظرة لبيت المقدس .
لقد كانت في الواقع أكثر من هزيمة , إنها نكبة , إنها كارثة , إنها انهيار , واشد ما يؤلم الكريم في هذه الكارثة , أنها جاءت بعد أن أصابت القوم الحمى , والتي عادة ما تصيب الثوريين الذين حوّلوا الهزيمة وبكل صفاقة إلى نصر وأن العدو الصهيوني فشل في عدوانه لأنها كانت تريد إسقاط الأنظمة الثورية التقدمية ولم تفعل .
فعُقدت لذلك المؤتمرات , وأُلقيت التصريحات النارية , والتهديدات بالقاهر والظافر وبأقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط وبتأديب إسرائيل ومن وراء إسرائيل , تعالوا بنا لنقف على بعض التصريحات التي جاءت قُبيل الهزيمة :
كتبت جريدة الجمهورية القاهرية في 21/5/ 1967 تقول بكل ثقة : "في ساعات قليلة يمكن أن تُسحق إسرائيل بغير استخدام كافة قوّاتنا في المعركة " !! ونشرت جريدة الأنوار اللبنانية في 8/9/1967 عن مسؤول كبير في مصر لوزير الحربية شمس بدران قُبيل العدوان : اسمع يا شمس هل وضعت في حسابك احتمال تدخل الأسطول السادس ؟ بالطبع . - يعني إذا تدخل حا تعمل إيه ؟ - اطمئن أول طلقة يطلقها حا أبططه !!
ونشرت صحيفة الأهرام القاهرية في 2/ 6/1967أي قبل الهزيمة بثلاثة أيام فقط ، لرئيس تحريرها الأسطوري محمد حسنين هيكل مقالا كتب فيه " مهما يكن وبدون محاولة لاستباق الحوادث , فان إسرائيل مقبلة على عملية انكسار تكاد تكون محققة , سواء في الداخل أو الخارج " !
والغريب في الأمر أن هؤلاء هم قوى الاحتلال الداخلي , الذين كانوا الإسفين الذي دُق في نعش هذه الأمة , جثموا وما زالوا جاثمين على صدورنا كالكابوس, أصبحوا وبقدرة قادر من الشهود على هذا العصر , وخُصصت لهم برامج ملؤوا فيها الدنيا ضجيجا , واشغلوا الناس بأكاذيبهم ,وضلالاتهم,والمفروض أن يحاكم أمثال هؤلاء , وان تُكشف لامتنا حقائقهم , فالحصاد الهزيل الذي يًثير الشفقة ,وماهية النتائج التي ورّثوها منذ نكسة حزيران عام 1967 م , تكفي لتؤكد عيانا وبالملموس أن هذه الشعارات الفارغة لم تكن أكثر من رايات خدّاعة , استخدمها هؤلاء لتعزيز مكانتهم وإيهام الرأي العام أنهم المُخلّص لهذه الأمة , وإنهم أمل الأمة ,وحُماة الديار, ولتُبرهن بعد ذلك فشلها , وإخفاقها في قيادة المجتمع , وانجاز مهام التحرير والاستقلال , كما كشفت عجز العقل السياسي لدى هؤلاء , وأنهم هم من جلب الويلات إلى هذه الأمة ,ورسّخ الدكتاتورية المهزومة في هزيمة شعوبها , وفي وأد آمالهم ,وأمانيهم ,وتكريس نفسها وصيّة على البلاد والعباد
أقول من غير تحامل على احد وبالفم الملآن أنهم خير من صنع الهزائم والانكسارات وحطّم القيم وروح المقاومة والكفاح عند الشعوب وفرّغتها من " الروح " .
نُشر في العمود الثالث من الصفحة الأخيرة بجريدة الأهرام يوم 1/6/1967اي قبل الهزيمة بأربعة أيام ما نصه [ وضع مجدي العروسي مدير صوت الفن جميع الإمكانيات تحت تصرف التوجيه المعنوي في القوات المسلحة , كما بدأ في طبع 40 ألف صورة كارت بوستال عليها صورة عبد الوهاب – الذي منح لقب لواء فيما بعد تكريما له على مساهمته الفاعلة في الهزيمة – و 40 ألف صورة لعبد الحليم حافظ , و 40 ألف صورة لنجاة الصغيرة , و 40 ألف صورة لشادية , على كل منها إهداء من صاحبها سترسل من الغد إلى جنودنا الرابضين في الجبهة ]
وفوق هذا الخبر أغنية لام كلثوم " هل رأى الحب سكارى " وصور مختلفة لها في استوديو 35 . والذي كافأتها إذاعة إسرائيل بأن خصصت لها ساعة كاملة من بثها يوميا لتشدو للجيوش العربية الباسلة للقضاء على إسرائيل .
أم كلثوم حلية من حُلى الشرق تسامى بها الغناء افتتانا
وحدت من بني العروبة رأيا ومصيرا وراية وكيانا
فهي تحدو جيوشنا لقتال يسحق المعتدين والعدوانا
هذا ما نُشر , لقد وقف الإسرائيلي في المعركة ومعه سلاحان سلاح التوراة وسلاح المدفع ووقف العربي ومعه سلاح الفن وقد اختفى صوت الدّين بين جلبة المغنيات والمغنين والمهرجين و الطبّالين والزمّارين .
وفي هذه الظروف يأبى قادة الطيران في ارض الكنانة صاحبة الولاية , إلّا أن يقيموا حفلا راقصا يشربون ويطربون ويتراقصون ويتمايلون حتى مطلع الفجر , بدلا من أن يبيتوا لربهم سجدا وقياما خلف متاريسهم يقولون : ربنا اصرف عنا عذاب جهنم وميراج إسرائيل . ومن أراد الاطلاع لمعرفة المزيد من الفضائح والمخازي التي يندى لها جبين الكريم ويضيق بها صدر الحليم الرجوع إلى كتاب " تحطمت الطائرات عند الفجر " لمؤلفه "باروخ نادل " ترجمة مجموعة من الأدباء .
نعم لقد دخلنا المعركة بجاهلية كما دخلها الجاهليون من قبل , فهذا أسلوب أبي جهل ومن على شاكلته , أسلوب أبي جهل أسلوب ماجن فاجر ينتهي بالخذلان والهزيمة , والعجيب أن التاريخ يحدثنا أن أبا جهل - قبل معركة بدر – أرسل إليه أبو سفيان يقول له ولمن خرج معه أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورحالكم , فقد نجاها الله فارجعوا , فقال أبو جهل فرعون هذه الأمة وما أكثرهم في بلادنا هذه الأيام : والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا , فننحر الجُزر , ونطعم الطعام , ونسقي الخمر , وتعزف القيان - أي الجواري المغنيات - ففعلوا ولكنّ الله تعالى أراد أن يرينا عاقبة اللهو والمجون والغرور والفجور فما كاد ينتهي أبو جهل من حفلته الماجنة , حتى بدأت المعركة , وحمي الوطيس .. وراح أبو جهل ضحية آثامه فوا لله الذي لا اله إلا هو هذا ما حدث لطيارينا بالتمام والكمال يقول "باروخ نادل" في كتابه " تحطمت الطائرات عند الفجر " ص -222- ليلة 5 يونيو 1967 : يا , يا , يا , هتف الطيارون وصفقوا مع رفع الموسيقى الصاخبة , والحركات الشهوانية التي تؤديها الراقصة { سهير زكي } من أشهر راقصات هز البطون في مصر ... وعلى المسرح أدت أدوارا مثيرة بعرض فنها الساحر أمام الطيارين , كان كل جزء من أجزاء جسمها يؤدي دورا فنيا خاصا به , بطنها ,ظهرها ,والثديين المفتوحين تدعوان الشهوة والرغبة العارمة . وأنا كنت اصدر الإشارة من حين لأخر إلى الخدم ليقدموا المزيد من الشراب , وهنا أزاحت الراقصة سهير زكي الغلالات الرقيقة التي تستر بعضا من أجزاء جسمها الحساسة , فلم يبق مستورا سوى الجزء الذي عنده يلتقي الفخذان , وكان هذا الجزء ألآن محط جميع الأنظار من كل جانب . وكان عدد الطيارين الذين حضروا الحفل 400 طيار مع قائد سلاح الجو , وبقوا إلى ما بعد الفجر من صبيحة يوم السادس من حزيران وفي تمام الساعة 830 صباحا قامت الطائرات الإسرائيلية بتحطيم سلاح الجو المصري بالكامل . لقد صُعق الجنرال " موردخاي هود " قائد طيران العدو الذي قام بالعملية على أساس نجاحه من الضربة الأولى – صُعق قبل غيره عندما جاءته نتائجها وكان قوله الذي نقل عنه :" إن ما حدث يفوق أكثر أحلامي جنونا "
نعم يا سادتي إن الذين ساهموا في معركة التحرير مع يهود الرجس أصوات رخوة مائعة حقيرة تنضح بالرجس والدنس تلوك ألفاظ الوطنية وألفاظ الكفاح كأنما كُتب على هذه الأمة أن تتلقى الدعوة إلى الكفاح والنضال ممن تربى في مواخير العهر والدعارة وبنغمات المخانيث ونبقى ساكتين , بمثل هذه الضمائر الدنسة خضنا معركة التحرر والتي مازالت هذه الأمة تصفق لهم بحماقة بلهاء .
هذا الذي دفع بالباحث الإسرائيلي الدكتور" يوحاي سيلع " المتخصص بشئون الشرق الأوسط والذي عمل بعدة جامعات من بينها جامعة أكسفورد وجامعة هارفارد في مقاله المنشور في جريدة القاهرة في 31/5/ 2009 إلى أن الشخص المسؤول عن هزيمة العرب هو محمد حسنين هيكل رئيس التحرير الأسطوري لجريدة الأهرام ومشيرا إلى أن قربه الشديد من الرئيس جمال عبد الناصر هو ما جعل هيكل من أكثر الشخصيات تأثيرا في مصر .
لذلك كانت أجهزة المخابرات الإسرائيلية بل وأجهزة استخبارات دول أخرى كثيرة تقوم بترجمة مقالات هيكل الطويلة وتحليل محتواها لتوضع على مائدة متخذي القرار وكان كل ذلك يتم بمجرد طرح أهرام الجمعة للبيع لدى باعة الصحف .
ويقول "سيلع " : إن مقالات هيكل تضمنت تضليلا كبيرا للرأي العام العربي حين تعمد بعد ذلك خلال الخمسينيات والستينيات أن يعمق الشعور بالاستهتار لدى الشارع العربي بقدرات إسرائيل في حين كان يتعمد التضخيم من قدرات مصر وقواتها ورئيسها جمال عبد الناصر ! حتى انه وصف التورط المصري في اليمن بـأنه فرصة جيدة للتدريب العسكري وإفراز قادة جدد للعسكرية الذي وصفها بأنها خارقة !!! ياللعار !!ّ!.
وقد كثرت الاجتهادات في بيان الأسباب والعوامل التي أدت إلى الهزيمة , فامتدت من أحاديث عن التفكك العربي إلى تفوق العدو الصهيوني إلى تخلفنا وجهلنا إلى القمع والاستبداد الذي يرعى شؤوننا والاهم من ذلك كله إلى القهر والتمييز والتسلط إلى غير ذلك .لم يكن هذا الرأي مقبولا قبل الهزيمة , وان صار مسموحا به ومسموعا بعدها , لكن ليس لوقت طويل , فقد قطعت هذا المخاض "معركة الكرامة" 21الشهيرة آذار عام 1968 التي مثلت بأبعادها المختلفة مُنعطفا هاما في حياتنا , ذلك أنها هزّت بعنف أسطورة التفوق الإسرائيلي وأثبتت أن سواعد أبنائنا البررة قادرة على تحقيق النصر وحماية الوطن من يهود الرجس الملاعين , كما أن بعضا من الروح رُدت إلى الشعب العربي بعد الخسائر الفادحة التي تكبدتها قوات العدو الصهيوني , كما أعطت الكرامة لإخواننا في المحتل من أرضنا فيضا من الإيمان بقدرة هذه الأمة , فكان أن تفجرت انتفاضة عارمة على ارض فلسطين العربية حيث سجل إخواننا عبر النهر ملحمة من ملاحم البطولة والفداء , وأتاحت الكرمة لامتنا العربية فرصة لإعادة ما سُلب من كرامة اثر هزيمة حزيران الماحقة الساحقة .
ليغدو الحديث أكثر حضورا وتأثيرا وقبولا عن البطولة والتضحية كسبيل وحيد للنصر .
وصدق الله العظيم إذ يقول : { لَتَجِدَنَّ اشد الناس عداوة لِلَّذِينَ امنوا اليهود وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } المائدة 82