حريّة الاعتقاد

من أقدس الحريات وأعلاها مرتبة وأعظمها مكانة، وتتقدم في الأولوية على ما عداها من الحريات في أهميتها، هي حريّة الاعتقاد، وتنبع حرية الاعتقاد من حريّة الفكر التي تعد قرينة إنسانية الإنسان وعنوان التكريم الآدمي.
لقد ميزّ الله الإنسان بالعقل، وجعل العقل مناطاً للتكليف وحمل الأمانة، التي تتمثل بإعمار الأرض، والعناية بالمخلوقات جميعها من خلال قدرة العقل على اكتشاف نواميس الكون، وما يختزنه من أسرار، وحكم تحتاج إلى تفكير، وتدبر دائم ومستمر لا يتوقف، وإعمال للعقل عن طريق اكتساب المعرفة والعلوم التي تؤهله للقيام بدوره.
ثمرة استعمال العقل، ونتيجة التفكير تتمثل بالوصول إلى الحقائق الكونية الكبرى والحصول على الإجابة الشافية على الأسئلة الكبرى، مما يحتم على البشر بذل أقصى درجات التعاون المشترك من أجل التوافق على احترام إنسانية الإنسان وعقله وحفظ كرامته وإطلاق إرادته.
الوظيفة الأولى للسلطة - أي سلطة – ووظيفة أصحاب النفوذ من زعماء وحكام وحكومات ورؤساء ووزراء، وكل أصحاب المسؤولية بكل درجاتها هي حماية حريات الناس، وتوفير كل الضمانات الممكنة لممارستها، من دون عدوان أو تعسف، ولم يبتدع البشر السلطة في أصل فلسفتها لممارسة العدوان على حريات الناس ومصادرة حقهم في الحياة والتفكير والعمل، وفلسفة القانون ابتداءً كانت من أجل تنظيم ممارسة الحريات الفردية والعامة، بطريقة سلمية وواضحة ومحترمة.
ومن هنا، فإن الفهم الصحيح للإسلام وفلسفته في هذا الموضوع، قائم على بذل الجهد من أجل توفير الضمانات للبشر ليكونوا أحراراً في تفكيرهم، وأحراراً في معتقداتهم وأحراراً في القول والكلام والتعبير عما يعتقدونه صوابا، وتوفير الأجواء المناسبة للحوار الهادئ القائم على المحاججة واستخدام البراهين والأدلة العقلية بالحكمة والموعظة الحسنة، واحترام الرأي الآخر وتقدير صاحبه من دون سخرية أو تهكم، فضلاً عن تحريم استخدام أدوات القوة والعنف أو اللجوء إلى أساليب الإكراه والقهر لمصادرة الحق في استخدام العقل.
لقد أسس القرآن الكريم لحياة الحرية التامة، التي يكون الناس فيها بعيدين عن كل أساليب القهر والإكراه عندما وضع القاعدة الكبرى في هذا المجال بعبارة قاطعة لا تحتمل خلافاً "لا إكراه في الدين".
وما كانت مشروعية الجهاد، وتسيير الجيوش في عملية الفتوحات الأولى وما بعدها إلى يوم القيامة إلاّ بهدف إزالة عوامل الإكراه التي تمارسها السلطات الحاكمة، من أجل إتاحة حريّة الاختيار للناس لمعتقداتهم وأديانهم وأفكارهم وآرائهم، ومنذ ذلك الوقت، رأى فريق من الناس اختيار معتقد مخالف للدين الإسلامي، والتزمت الجيوش الفاتحة والسلطات القائمة بعد ذلك، وبقي في بلاد الإسلام جماعات وفرق تدين بالمسيحية أو اليهودية، أو الصابئة، أو المجوس وغيرهم، وتعيش بسلام مع الأغلبية المسلمة بكل حرية واحترام متبادل حتى هذه الساعة.
الإسلام يأمر بالابتعاد عن استخدام القوة في فرض الأفكار والمعتقدات والأديان، ولا يجيز استخدام القوة إلاّ من أجل حماية الحريات وحماية أصحاب الأفكار ما داموا ملتزمين بالمنهج السلمي الحضاري، القائم على الحوار المتمدن الذي يمتزج باحترام المخالف، وتقدير الرأي، والإذعان للدليل من دون عنف.
إن كل من يستخدم العنف والقوة والإكراه في فرض الأفكار والمعتقدات، فقد وقع في المعصية والمخالفة الصريحة لنصوص القرآن وقواعد الإسلام ومقاصد الشريعة بإجماع المسلمين، واستخدام القوة يعد إساءة للإسلام وإساءة للأمة وحضارتها ويعد صدا عن سبيل الله، وسبباً من أسباب ظهور المنافقين والأعداء الداخليين.
أما بخصوص عقوبة الردّة، فهي عقوبة سياسيّة مرتبطة بجريمة سياسية عامة تتمثل بالخروج على الدولة والنظام العام، كما حدث في حروب الردّة في زمن الخليفة "أبي بكر الصديق" عندما سيّر أحد عشر جيشاً لإعادة النظام، وترسيخ أسس الدولة القوية المهيمنة في جزيرة العرب، ولذلك نجد ابن قدامة الحنبلي في المغني وغيره كثير من الفقهاء لم يصنفوا عقوبة الردة من جملة الحدود، وإنما جعلوها عقوبة مستقلة.وهذا ما ذهب إليه زمرة من العلماء والله أعلم. ( العرب اليوم )