تظاهرات 30 يونيو.. هل ينزع الرئيس فتيل الأزمة؟

تدخل الثورة المصرية منعطفا جديدا مع وصول العلاقة بين معظم القوى السياسية المعارضة من جهة، والرئاسة وجماعة الإخوان المسلمين من جهة أخرى إلى مرحلة الإقصاء المتبادل، وتصور كل فريق أن بإمكانه تحقيق أهداف الثورة دون الآخر. يوضح هذا المقال لماذا وصلنا إلى هذا الوضع، ويقدم بديلين لمعالجة هذا الأمر.
الإقصاء المتبادل
لم يستطع الطرف الأول (المعارضة) القيام بدور المعارضة الوطنية الحقيقية، إذ طغت المصالح الشخصية لبعض رموزه على مواقف المعارضة بشكل عام، وبدلا من معارضة قرارات الرئيس محمد مرسي على أرضية المصالح الوطنية الجامعة وتقديم النصح والبدائل له ووضعه أمام مسؤولياته التاريخية باعتباره المؤسسة السياسية الوحيدة المنتخبة شعبيا، تصورت المعارضة أنه بالإمكان إسقاط الرئيس وجماعته وإقصائهما من المشهد والحلول محلهم.
هذا أمر خطير للغاية لأنه أوصل العمل السياسي -الذي الأصل فيه الحلول الوسط والتنازلات المتبادلة- إلى مباراة صفرية إقصائية بعد شهور من انتخاب الرئيس. وهذه مباراة لن يتحقق لأحد فيها النصر كما يتوهم البعض.
كما أن المعارضة أقامت خطتها على تصور أنه بالإمكان القضاء على التيار الإسلامي بأكمله في مجتمع منقسم ويلعب الدين فيه دورا مؤثرا، وفي أعقاب ثورة شارك فيها هذا التيار بقوة.
لا شك عندي أن التيار الإسلامي لن يقف متفرجا إزاء هذه الخطة، وبفرض نجاح المعارضة في إسقاط الرئيس، فإن البلاد ستدخل في مرحلة من العنف والعنف المضاد لا يعرف إلا الله وحده متى تخرج منها، كما أن مجيء رئيس غير إسلامي سيؤدي غالبا إلى وقوف الإسلاميين ضده في أول أزمة والسعي إلى إسقاطه.
أما الطرف الثاني (الرئاسة والإخوان) فهو يُصدّر خطة عنوانها المعلن هو استكمال مؤسسات الدولة، ويرى أنه استطاع كسب ثقة المواطن العادي من خلال تحقيق قدر معقول من الاستقرار واحتواء العنف مقارنة بما كان تحت حكم المجلس العسكري، بجانب إقامة علاقات خارجية جيدة مقارنة بما تقوم به المعارضة. فضلا عن حالة التهدئة مع القضاء، والمصالحات السرية التي تتم مع رجال الأعمال، الأمر الذي سيعود -كما يُعتقد- بالنفع على الاقتصاد وسيخفف من حدة الهجوم الإعلامي.
وسيترتب على هذا -كما ترى الرئاسة- أن الانتخابات القادمة ستكون لصالح الإخوان، ليس فقط لعدم وجود بديل شعبي حقيقي وإنما لميل الناخب المصري لمن في الحكم وللإنجازات التي حققتها الرئاسة.
هذا التصور يقدم نظرة براغماتية وضيقة لما يدور في مصر، نظرا لأن الكثيرين يرون أنه يعتمد على نفس الأساليب التي ثار عليها المصريون والتي تتمثل في الإقصاء وتقديم المشاريع الحزبية الضيقة على حساب المصلحة الوطنية الجامعة وعلى حساب المشاركة، الأمر الذي سيعود بالسلب على الرئاسة والإخوان عاجلا أم آجلا.
لقد أسقطت ثورة 25 يناير هذا النمط من الحكم، وستُسقط أي حكم مشابه إنْ في 30 يونيو/حزيران أو بعده. إننا في أعقاب ثورة شعبية وسقف الطموحات الشعبية مرتفع للغاية، والحالة الثورية لدى الشباب لا زالت مرتفعة، وعودة الأمور إلى الصفر غير مستبعدة تماما بل متوقعة إذا استمر هذا النمط من الحكم.
هذا ناهيك عن أثر هذا النمط من الحكم على المشروع الإسلامي الذي يرفع الإخوان إحدى راياته الأساسية، وذلك في ظل الانقسامات الواضحة في صفوف التيار الإسلامي ذاته وتصاعد الانتقادات من داخل صفوف الإخوان، ولا سيما من الشباب.
تحديات الداخل والخارج
يتزامن هذا الانقسام السياسي الداخلي مع أزمات اقتصادية شديدة، ومع حالة تكاد تصل إلى الحراب الأهلي بين المواطنين عند مناقشة أية قضية سياسية، فالآراء حدية في معظم الأمور، وكل طرف يعتقد جازما أنه على صواب. وتزداد خطورة الأمر مع كمِّ المعلومات المغلوطة التي تتداولها أجهزة الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي. ومع مرور نحو سنتين ونصف على الثورة، تسود حالة من الإحباط واليأس عند الكثيرين مما يفاقم الوضع بأكمله.
وبجانب هذا تأتي التحديات الخارجية المتلاحقة، بدءا من الأوضاع الأمنية المتردية في سيناء، مرورا بالأوضاع في ليبيا وتهريب السلاح والبضائع وكذا الأوضاع في سوريا، وانتهاءً بأزمة السد الإثيوبي والأمن القومي المائي وكافة المخططات الخارجية الرامية إلى إجهاض الثورة والحيلولة دون ظهور حكومة قوية في مصر بعد الثورة.
الآلية المجربة تاريخيا لمواجهة مثل هذه التحديات وقت الأزمات هي التكتل الوطني وتأجيل التنافس السياسي لحين انتهاء الخطر، ويتم هذا عادة في الديمقراطيات القوية من خلال آلية حكومة الوحدة الوطنية، أما في الديمقراطيات الناشئة وأثناء مراحل التحول فيتم عن طريق التكتلات والتحالفات الواسعة والتركيز على الأولويات والمشتركات وتأجيل حسم القضايا الفرعية لما بعد التأسيس.
المؤتمر الوطني العام
ولمعالجة هذا الوضع لا بد أولا أن تقتنع الأطراف المختلفة بأن الأزمة (المستمرة منذ شهور) ستستمر طالما لم تتم معالجة جذورها والتأسيس لشراكة وطنية واسعة، وتقوية الرئاسة والمؤسسات المنتخبة بالشعب بدلا من خلق الأزمات وتضليل الجماهير بأوهام ونظرات ضيقة للواقع.
وبالنسبة لي أعتقد أن أمام الرئيس أحد حلين:
الأول تطوير آلية الحوار التي ثبت أنها غير ناجحة، والدعوة لمؤتمر وطني عام على دائرة مستديرة، تحضره كافة القوى السياسية لغاية عليا هي نبذ الفرقة السياسية وتصحيح المسار عن طريق وضع إستراتيجية وطنية لإدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية، واستكمال مؤسسات الدولة وتحديد ثوابت العمل الوطني الداخلي وثوابت سياسة خارجية جديدة تتلاءم مع حجم المخاطر الحالية والمتوقعة.
فبرغم قرب تظاهرات 30 يونيو/حزيران فإنه لا مستحيل في السياسة، كما أن القيادات التاريخية هي القيادات القادرة على نزع فتيل الأزمات وتقديم تنازلات متبادلة من أجل المصلحة الوطنية الجامعة.
ومن الممكن أن ينجح هذا المؤتمر إذا أدركت كل الأطراف، بالسلطة والمعارضة، حجم المخاطر وتجاوزت شكوكها المتبادلة وقبلت العمل معا من أجل وضع إستراتيجية وطنية متكاملة لاستكمال مرحلة التأسيس وتحديد الثوابت الوطنية لتحقيق الأمن والتنمية وصنع سياسة خارجية قوية.
قرارات رئاسية تاريخية
أما الحل الثاني فهو أن يأخذ الرئيس زمام المبادرة بمفرده ويتخذ مجموعة من القرارات التاريخية التي تحقق هذا التوافق فعلا ضمن إستراتيجية شاملة وبإطار زمني محدد، يعلنها الرئيس في خطاب للشعب بمناسبة مرور عام على وصوله للحكم. وتتضمن هذه الإستراتيجية الشاملة ما يلي:
1- تشكيل "حكومة جديدة" يرأسها شخص من ثلاث شخصيات وطنية تحددهم جبهة الإنقاذ، باعتبارها أكبر تكتل معارض، وعلى أن يكون لرئيس الوزراء نواب يحددهم رئيس الجمهورية. وأود التذكير بأن "تشكيل حكومة وطنية ائتلافية" برئاسة شخصية وطنية من غير الإخوان قد وردت في وعود الرئيس الانتخابية قبل وصوله للرئاسة بأيام. وفي حالة رفض الجبهة على الرئاسة الإعلان عن ذلك بشكل مباشر والشروع في البحث عن شخصية وطنية غير محسوبة على التيار الإسلامي وتكليفها بتشكيل الحكومة.
2- تعيين "نائب عام جديد" من ثلاثة أسماء يحددها مجلس القضاء الأعلى، ويمكن تعيين النائب العام الحالي في منصب وزاري أو استشاري.
3- تشكيل "هيئة استشارية للشؤون الاقتصادية" من الكفاءات الاقتصادية الوطنية لتعمل بجانب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء في الشأن الاقتصادي وشؤون البورصة وكافة الشؤون الاقتصادية الأخرى وعلى رأسها قضايا العدالة الاجتماعية. فحتى الآن وبعد عام من وصول الرئيس لا يوجد مستشارون اقتصاديون لا للرئيس ولا لرئيس الوزراء في دولة تعاني من أزمات اقتصادية حادة في قطاعات مختلفة. وأود التذكير هنا أيضا بأن الرئيس تحدث في خطاب سابق عن تشكيل "هيئة للتنمية الاقتصادية".
4- تشكيل "هيئة استشارية للشؤون الخارجية والأمن القومي" من خبراء السياسة الخارجية والعلاقات الدولية والأمن القومي والقانون الدولي تعمل بصفة دائمة بجوار الرئيس ورئاسة الوزراء.
5- تشكيل "لجنة لمعالجة الشأن الأمني" من الحقوقيين والمتخصصين وخبراء الأمن والشرطة وتكليفها بوضع خطة لإصلاح وإعادة هيكلة جهاز الشرطة وكافة الأجهزة الأمنية الأخرى ومواجهة الانفلات الأمني بكافة أشكاله، ووضع جدول زمني محدد لذلك والشروع فورا في تنفيذها.
6- تشكيل "لجنة لمراجعة الدستور" من ممثلين للأحزاب السياسية ومن فقهاء القانون الدستوري وخبراء العلوم السياسية وشخصيات عامة للنظر في الدستور وتقديم مقترحات تعديله، مع تعهد الأحزاب بتقديم المقترحات لمجلس النواب القادم.
7- إعادة تشكيل "مؤسسة الرئاسة"، نوابا ومستشارين ومساعدين، على أساس الكفاءة وتمثيل المرأة والأقباط والشباب، وذلك كما ورد أيضا في وعود الرئيس الانتخابية قبل وصوله للرئاسة وبعد الوصول.
8- تشكيل "هيئة خبراء لإعادة بناء مؤسسات الدولة" من خبراء السياسة والإدارة والقانون وبناء المؤسسات، تكلف بوضع إستراتيجية محددة لإعادة بناء مؤسسات الدولة وتفعيلها، تتضمن كافة الخطوات والمتطلبات اللازمة للتنفيذ.
9- تشكيل "لجنة للمساعدة الانتخابية" من ممثلي الأحزاب وخبراء القانون والسياسة ومنظمات المجتمع المدني، وذلك لإعداد خطة زمنية لانتخابات مجلس النواب وكافة التحضيرات المتعلقة بها، على أن تعمل اللجنة بالتنسيق مع مفوضية الانتخابات. والهدف هنا إعادة كسب ثقة الأحزاب في العملية الانتخابية وإشراكهم في العملية السياسية.
10- تشكيل فرق عمل متخصصة من الخبراء والشباب (دون النظر إلى انتماءاتهم الفكرية والسياسية) لمساعدة الحكومة في معالجة الملفات الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وبما يضمن أكبر قدر من الاستفادة من الخبرات المختلفة ومن الطاقات الشبابية.
11- الإعلان عن أن كافة مشاريع القوانين التي أثارت جدلا في مجلس الشورى -كمشروع قانون القضاء- لن تُعتمد إلا في مجلس النواب القادم وبعد التشاور الحقيقي مع أصحاب الشأن. بجانب الإعلان عن تأجيل تشكيل المؤسسات المستقلة التي نص عليها الدستور (مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي والمجلس الوطني للتعليم والبحث العلمي وغيرهما)، وذلك حتى تستقر الأوضاع السياسية وتخف حدة الاستقطابات السياسية ويكون لدينا مؤسسات مكتملة، وعلى الأخص مجلسا النواب والشورى الجديدان.
ومن المهم التذكير بضرورة اعتماد معيار الكفاءة في التعيين في كافة هذه اللجان والهيئات المقترحة، بجانب معيار التمثيل والتنوع. فالمعياران مهمان في هذه اللحظة التاريخية.
إن البديل لهذا كله لن يكون إلا استمرار التأزم حتى تنفجر الأوضاع من جديد ونعود قسرا وبتكلفة مرتفعة بشريا وماديا إلى نقطة الصفر.
إن التاريخ لن يرحم من ساهم في رفع تكلفة هذه الثورة وعرقلة مسارها سواء بنظرته الضيقة للأمور وإعلائه لمصالحه الشخصية أو الحزبية، أو بتغافله وتعاليه على نصح الناصحين وتحذير الخيرين من أبناء هذا الوطن.
ولن يذكر التاريخ في صفحاته المشرقة إلا المحطات الكبرى التي نجحت في جمع التيارات على المشتركات الكبرى والأولويات القصوى، وفي تأسيس النظام السياسي البديل الذي يحمي الحريات والكرامة، ويصنع سياسات أمنية وخارجية قوية، ويضمن عدم العودة مطلقا لسياسات الإقصاء والإفساد. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
( الجزيرة )