يوم كنا نتطوع

كنت أبحث عن صورة قديمة للعائلة ووقعت على التالي: شهادة اختصاص في الدفاع المدني. الجمهورية اللبنانية، وزارة الدفاع الوطني، أركان حرب القيادة - الشعبة الثالثة، مكتب الدفاع المدني. إن السيد جهاد الخازن متطوع، قد تابع دورة الدفاع المدني، فصيلة الإنقاذ، صنف اختصاصه منقذ في هذه الفصيلة. إن هذه الشهادة صالحة لمدة ثلاث سنوات اعتباراً من 24/5/1957. للموافقة اللواء قائد الجيش، عنه رئيس أركان حرب القيادة، العقيد نائب رئيس أركان حرب القيادة. (أصبحتُ في البكالوريا قائد رهط).
تحت ما سبق تواقيع وأختام رسمية، والشهادة كانت تعود إلى أيام الدراسة الثانوية عندما تطوعنا وطموحنا إنقاذ مواطن، والآن نبحث عمّن ينقذ الوطن.
أترك المهمة لغيري، فزمن المعجزات ولّى، وأنا أستطيع أن أحمل جريحاً على ظهري إلا أنني لا أستطيع أن أحمل الأمة.
وضعت الشهادة جانباً وجلست أقرأ بريد القراء المنشور في «الحياة» والذي أتلقاه مباشرة وأرد عليه، وكالعادة وجدت رسائل ذكية تضم أفكاراً وتعليقات وملاحظات، ولكن كان معها رسائل أخرى تعكس عمق الانقسام العربي على كل قضية، وبما يتجاوز بلادنا إلى تركيا وأميركا وأوروبا وروسيا.
الاختلاف في الرأي سنّة الحياة الدنيا، والإنسان العادل المعتدل المثقف يجب أن يتسع عقله وقلبه لرأي يخالف رأيه. لا أسأله أن يقبل الرأي الآخر وإنما أن يسمعه ويرحب به، ثم أرجوه ألا ينسب اليّ كلاماً لم أقله، ففي ما أقول إدانة كافية لي.
في مقال لي عن رجب طيب أردوغان والتظاهرات في تركيا، سجلت بالأرقام الإنجاز الاقتصادي غير المسبوق الذي حققه حزب العدالة والتنمية في تركيا خلال عشر سنوات، ما جعله يفوز بالانتخابات النيابية ثلاث مرات متوالية.
قارئ لي قال إن مقالي ليس فيه شيء من الإنصاف، وآخر قال: نمو الاقتصاد التركي، ومثلما بيَّنتَ في مقالات سابقة، هو من بركات الولاء الأميركي، وأنا حتماً لم أقل هذا إطلاقاً، وغيره قال إن التظاهرات ستتوقف وسأكتب عن الحنكة والسياسة الرائعة والعميقة لرئيس تركيا. أولاً أردوغان رئيس وزراء تركيا، أما الرئيس فهو عبدالله غل، وأنا أعرف الاثنين معرفة شخصية جيدة، والقارئ لم يرهما، وقد امتدحتُ دائماً سياسة أردوغان وحزبه، خصوصاً الإنجاز الاقتصادي، ولم أغير رأيي في هذا الإنجاز أبداً.
الأسماء موجودة والغرض هنا الإيضاح لا التشهير، وقارئ انتقل من تركيا إلى الأنظمة السلطوية التي طالما رأيت في حكامها «مثال الحكمة» على حد قوله. طبعاً هذا لم يحدث إطلاقاً، ولم أنسب الحكمة في حياتي إلى أي مسؤول، أو إلى أفلاطون نفسه. قارئ آخر قال إن المتظاهرين أنصار النظام الطائفي في سورية، وهم حتماً تظاهروا لأسباب تركية محلية، وربما كانوا لا يعرفون الفرق بين النظام والمعارضة في سورية.
وانتقدتُ تدخل حزب الله في الحرب الأهلية السورية وقلت إنه خطأ، وتحدثت عن موسم السياحة الضائع، وعكَس البريد كله مدى الانقسام. فمعارضو حزب الله انتقدوني لأن اعتراضي لم يكن كافياً، وأنصار حزب الله انتقدوني لأنني انتقدت أداء الحزب.
تحدثت عن السياحة والصيف كجزء أساسي من الاقتصاد اللبناني، فأنا لا أذهب إلى لبنان في الصيف. مع ذلك تلقيت رسالة من قارئ في جامعة بغداد يقول فيها: إذا كنتم حريصون (بدل حريصين ويبدو أنه يعمل في مقهى الجامعة وليس أستاذاً للغة العربية) على سياحة لبنان وأبنائه فلماذا استقدمتم كلاب الأرض لتنهش في لحمه؟
من استقدَم كلاب الأرض؟ لماذا لا يلتفت الأستاذ أو الجرسون إلى الوضع في العراق حيث بدأت حرب أهلية ينكرها الجميع ويشتركون فيها؟
أخيراً قارئ بحريني يبدو أنه من أنصار المعارضة يرفض قولي إن قادتها يريدون نشر ولاية الفقيه في البحرين، وأصِرّ على أن هذا هدفهم وهو يكابر، وقد قلت دائماً إن للمعارضة طلبات محقة. ويتحدث القارئ عن استنزاف ثروات بلده، وأقول إن بلده من دون ثروات أو موارد طبيعية، وثراؤه النسبي سببه جهد حكوماته منذ الاستقلال، فالبحرين مركز مالي، وله شعبية كبيرة في السياحة المحلية، وعلاقاته بالجيران العرب طيبة. القارئ الذي ينكر ضوء النهار يكشف تطرفه بالإشارة إلى ما زعم أنني أعتبره «معجزات» حكام الخليج الحاليين. أتحداه أن يأتيني بمعجزة واحدة نسبتها إلى أي حاكم خليجي. الكذب والمبالغة والتطرف تلغي الصدقية، وأنا أبحث عمّن ينقذ الوطن. ( الحياة اللندنية )