اضطرابات علاقات الابوة والبنوة
يستطير في هذه الازمان الحديث الساخن عن عناد الابناء وتمردهم على الآباء ؛ مع ان الشريعة الاسلامية كانت قررت حقوقا واضحة للابناء على آبائهم ، كما حددت واوجبت حقوقا عليهم لآبائهم ، ونظمتها بدقة ولم تتركها أمشاجا ، فللبنوة على الابوة النفقة ، والمساواة في المعاملة ، وحسن التربية والتعليم ، والنصح والتوجيه والارشاد ، والحنان والحب والرحمة....وغيرها من الحقوق ؛ لكن رباط الحب والرحمة والحنان يظل هو الاقدس وهو الاقوى والابقى ، والذي قد يؤدي اغفاله إلى الانحراف وخروج الابناء على حدود الادب والشرع والدين ، والتنصل من القيم والعادات إلى التمرد والعقوق ، فقد قال صلى الله عليه وسلم (الزموا اولادكم واحسنوا ادبهم ).
اما ما يحدث في هذا العصر ، عصر العولمة والعالم المفتوح ، بآلياته العاتية ، وثقافته الغازية، ومناهجه ومدخلاته الغريبة الخبيثة ، والذي يساغ ان نطلق عليه عالم العنف والتمرد والعدوان ، رغم التغيير والتحديث السريع ،والتطوير المتسارع الهائل ، وانتشار المعارف والعلوم والثقافة ، وسيطرة وسائل الاتصالات والتقنيات التي من المفروض ان ييسر انتشارها حياة البشر وينظمها ؛ ولكن ولشديد الاسف فقد برزت احداث وظواهر لم يسلم شعب من آثارها الجانبية ، وبخاصة فئات الشباب الذين هم الاكثر تأثرا بحكم طبيعتهم النمائية ، ورغباتهم الثورية ، وافتقارهم للحنكة والحكمة والتجربة.
ونحن في الاردن لا نعيش بمعزل عما يحدث ؛ وان كان مخزوننا القيمي تليدا عتيدا ،الا انه لا يقوى ان يعصم الشباب او يعزلهم عن معايشتهم ومشاهداتهم لنماذج من السلوكات البشرية الواقعية السلبية ، المتناقضة والمتلاطمة ، وقد تكون تلك السلوكات الشاذة مدخلا لاضطرابات علاقات الابناء مع الاباء ؛ فيحل العقوق محل البر والوفاء ، وهو ما يجري فعلا من احداث مخالفة لمعايير وقيم الابوة وقيم البنوة في مجتمعاتنا المحافظة ؛ فيعترينا الهلع والذعر والفزع ؛عندما نرى او نقرأ اونسمع اخبارا تقشعر لها الابدان ، ويقف لها شعر الرأس ؛ بان شابا قتل اباه او امه بصورة بشعة ، او رمى بهما في الشارع او في دار العجزة ارضاء لخاطر زوجته ، او لشعوره بالخجل منهما ، وتتوالى صور العقوق البشعة من الضرب والطرد والقطيعة والهجران او الاهمال والشعور بالخجل والعار والتنكر من الانتساب لوالدين وهباه نعمة الحياة، وافنيا حياتهما كدا وتعبا لكي يرياه شابا ناجحا ، يفرحان لفرحه وسروره ، ويبكيان لمرضه واعتلاله.
ان هذا التمرد والعقوق انما هو مدعاة لتفكك وتمزق اواصر المجتمع في رحمه وارحامه، ورموزه وقيمه ، وخصوصيته وفي علاقاته اوثقها ، فلا ريب ان تلك ظاهرة سلوكية مرضية منحرفة لها آثارها المدمرة على اقدس العلاقات الانسانية وانبلها ، تهز النسق القيمي للانسان الاردني ، وتهتك قدسية الوالدية ورحمها ، فيحل العقوق محل الوفاء ، ويحل الجحود والنكران محل البر والاحسان ، ذلك هو انحراف مرضي نفسي اجتماعي اخلاقي ، ومغايرة سلبية لقيمنا واخلاقنا، يمثل سلوكا سيكوسيسيوبائيا اجراميا ، ويحقق المفهوم الاجتماعي الحقيقي للجريمة.
ان ثمة مسؤوليات عظام جسام على الوالدين وعلى المؤسسات المجتمعية الدينية والتعليمية – التربوية ،المدرسية منها والجامعية، والهيئات والجمعيات والاندية، والمؤسسات الاعلامية ومراكز الارشاد النفسي والتربوي،وكل المؤسسات التي يستقي منها الشباب سلوكهم وتصرفاتهم ، وتؤثر في تنشئتهم ؛ على كل هؤلاء تدعيم سلوكات بر الوالدين ،ومحاربة عقوقهما ؛ اذ يتوجب على الام بالدرجة الاولي العناية بصغيرها وارضاعه الرضاعة الطبيعية لبناء جسده ونفسه بناء نقيا سليما ، وعلى الوالدين مجتمعين، تبني مفهوم الوالدية الرشيدة الواعية المتكاملة، بالرعاية والضبط والحماية ،والعطف والتعاطف والمحبة ،وتدعيم قيم الابوة والبنوة الصالحة ، وانتهاج الطريق الصحيح في تحقيق مناخ اسري صحي، قوامه الحب والتحاب ، واستخدام العقل والمنطق في معالجة مشكلات الاسرة ، والتخفيف من حدتها وتفاعلها ، والتقليل من معاناة الابناء ،والابتعاد عن القسوة والعنف والتسلط والعصابية والتصلب، او السادية في التعبير الانفعالي ما امكن ، واعتبار الابناء غاية غاياتهما ، ومعاملتهما معاملة والدية سوية ، تقوم على المرونة والحزم والتقبل ،وتدعيم روح التعاون والوفاق والمحبة، ونبذ اثارة روح الصراع والمشاحنة.
وعلى المؤسسة الدينية تدعيم قيم الابوة والامومة في نفوس الناشئة وذلك بتقديم نماذج مثالية من سير الصحابة والتابعين ، وتوضيح جزاء عقوق الوالدين في الدنيا والآخرة، وعلى المؤسسة التعليمية والتربوية غرس منظومة القيم الاسلامية الاصيلة مثل: بر الوالدين وطاعتهما في نفوس الطلبة عن طريق المناهج والمقررات الدراسية، والانشطة التربوية ،وممارسة السلوك القويم المثالي داخل المؤسسة وخارجها، كما ان على المؤسسة الاعلامية ومراكز الارشاد النفسي والتربوي الاستعانة بالخبراء النفسيين والاجتماعيين لتقديم ثقافة نفسية اسرية سوية، وتقديم نماذج من تدعيم قيم بر الوالدين وطاعتهما وتسليط الاضواء على الابوة والامومة المثالية، والاسرة النموذجية المتحابة ،والاهتمام بالاستفادة لذلك من نتائج البحوث والدراسات الاجرائية الميدانية، وعقد الندوات واللقاءات الفكرية والنفسية والاجتماعية ؛ لتدعيم ثقافة اعلامية هادفة ؛ لحماية الابوة والبنوة وحماية الاسرة المكون الاساسي للمجتمع بشكل عام .