المعارضة ونظام الإنقاذ في السودان

أكمل السودان في الثلاثين من شهر يونيو المنصرم أربعة وعشرين عاما من حكم الإنقاذ، وهو الحكم الذي قامت به الجبهة الإسلامية التي أتيحت لها الفرصة للمرة الأولى للسيطرة على الحكم في البلاد.
ويعتبر الرئيس عمر حسن البشير الذي ظل رئيسا للسودان منذ القيام بانقلابه في عام ألف وتسعمئة وتسعة وثمانين أطول رئيس يبقى على سدة الحكم في السودان منذ عام ألف وتسعمئة وستة وخمسين.
وكانت العادة أن تجرى احتفالات واسعة في البلاد خلال هذه المناسبة وذلك ما لم يلحظه المراقبون في هذه العام، ولكن الكثيرين ما زالوا يشعرون بمرارة فقدان جزء عزيز من أرض الوطن قبل عامين حين أعلن انفصال الجنوب وتشكيله دولة خاصة به.
ولم ينته الأمر عند هذا الحد إذ شجع انفصال الجنوب حركات التمرد في إقليم دارفور وولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق بحيث أصبح واضحا أن الاستقرار الذي كانت حكومة الانقاذ تنشده لم يتحقق حتى الآن، ولا يقتصر الأمر على الاستقرار الوطني الشامل بل يتجاوز ذلك إلى الاستقرار داخل السلطة نفسها، إذ يرى الكثيرون أن التغييرات الحادثة في العالم العربي لا بد أن تنعكس على نحو أو آخر في السودان، لكن تيارا آخر في داخل الحكم لا يرغب في تغييرات تهز شكل النظام الذي ظل مسيطرا على السلطة منذ أربعة وعشرين عاما.
ونظرا للضائقة الاقتصادية التي تواجهها البلاد في الوقت الحاضر فقد بدأت حركة احتجاج واسعة، وكانت الحكومة قد نجحت في الماضي في الإفلات من مثل هذه الاحتجاجات التي قام بها طلاب في مظاهرات صغيرة غير أن الأمر يختلف الآن إذ تقول بعض المصادر إن هناك حشدا تظاهريا في مدينة أمدرمان قوامه نحو عشرة ألاف متظاهر وقد رفع المتظاهرون لافتات تشبه اللافتات التي رفعها متظاهرو ثورات الربيع العربي من قبل مثل الشعب يريد إسقاط النظام وارحل ارحل، ويلاحظ أن أعلى الأصوات التي ارتفعت في هذه الأيام هو صوت الإمام الصادق المهدي الذي مازال يتمسك بفكرة التغيير السلمي في السلطة ولكنه لا يخطىء النظر في أنواع المشكلات التي يواجهها السودان في الوقت الحاضر، فقد ذهب الصادق المهدي إلى المطالبة برحيل النظام بسبب فشل الحكومة من وجهة نظره في تأمين وحدة البلاد وأمنها وسلامتها، وقال المهدي إن نظام الإنقاذ وجد في البلاد حربا واحدة فرفعها إلى ست حروب، ووجد سودانا حرا يتمتع باحترام المجتمع الدولي فإذا به يواجه سبعة وأربعين قرارا ضده من مجلس الأمن، وهناك نحو ثلاثين ألف جندي من القوات الأممية في داخل البلاد، كما أن الحالة الاقتصادية قد تردت بدرجة لم يعد يطيقها المواطنون، وطالب المهدي بضرورة قومية القوات المسلحة والشرطة، وألا تصبح هاتان القوتان في خدمة المحسوبية والحزبية الضيقة وقد طرح المهدي حلين للوضع القائم، الأول هو الانتفاضة السلمية كما حدث في ثورة أكتوبر عام 1964، والثاني الجلوس إلى مائدة مستديرة يتحلق حولها جميع الفرقاء من أجل إيجاد مخرج سلمي لما يجري في البلاد.
وقال المهدي إن ما قام به حكم الإنقاذ من وجهة نظره احتلال للسودان باسم الانقاذ الذي سلط على البلاد سياسات فاشلة شبهها باللحم الحرام، وقال إن النظام رفع شعار الإسلام غطاء للسلطة، ولكن النظام في الوقت الحاضر هو أبعد ما يكون عن الإسلام، وقال الصادق المهدي إنه يعمل منذ الآن على الآتي:
أولا: تنظيم اعتصامات مليونية في ساحات البلاد العامة.
ثانيا: تنظيم اعتصامات أمام سفارات البلاد في الخارج.
ثالثا: مطالبة الأسرة الدولية بمباركة الانتفاضة الشعبية في السودان.
ومن جانبه قال العميد صلاح الدين محمد أحمد كرار عضو مجلس قيادة الثورة السابق إن على أهل الإنقاذ الذين قالوا إن نظامهم سيبقى مئة سنة أن يعملوا على معالجة الصراعات الداخلية في البلاد، وقال إنه أول من استخرج البترول في السودان، وعلى الانقاذ أن تتحمل وزر التردي الاقتصادي في البلاد، وقال لو أننا استخدمنا عائدات البترول في دعم مشروع الجزيرة ما وصل سعر الدولار سبعة آلاف جنيه، وأما بإمكان سقوط النظام خلال مئة يوم فقال إن ذلك لن يتحقق لأن المعارضة في البلاد ضعيفة، ولا يمكنها أن تحدث أمرا بهذا الحجم، ولكنه طالب السلطة بأن تلتزم الحكمة وتعمل على أن تشرك الآخرين معها في الحكم ،وإلا ستكون مآلات السودان هي مآلات العراق وسوريا وسيكتب عندها التاريخ أن الإنقاذ هي التي فتت السودان وأدخلته في عالم الصراعات العرقية والقبلية وغيرها من أنواع الصراعات، ومع ذلك لا يطالب العميد بنظام غير إسلامي، ولكنه لا يرى أن الإصلاح سيكون من داخل الكوادر الإسلامية التي تسيطر على الحكم الآن، وكأنه يريد أن يقول إن ما هو مطلوب هو إيجاد الرؤية الإسلامية الحقيقية التي يمكن أن يؤسس عليها نظام الحكم، ولا شك أن هذه هي المشكلة الأساسية التي يواجهها الإسلاميون في كل البلاد التي سيطروا عليها بعد ثورات الربيع العربي وخاصة مصر، لأن المطلوب في نظر الكثيرين ليس فقط أن تسيطر القوى الإسلامية على السلطة بل المطلوب هو أن تقدم هذه القوى صورة النظام الإسلامي الذي يكون بديلا للأنظمة التي عرفها العالم العربي من قبل والتي يعرفها العالم الأوروبي في الوقت الحاضر، ولا شك أن هذه رؤية لم يبذل الكثيرون وقتا في بلورتها مع أنها هي المركز والأساس، لأن الكثيرين يعتقدون أن التغيير هو فقط أن يؤتي بالجماعات التي ترفع الشعارات التي هي مقبولة عند أفراد الجمهور بسبب ولائها لمعتقداتها، ولكن ما يحدث في مصر في الوقت الحاضر يدل على غير ذلك .ومهما يكن من أمر فإن ما ندعو إليه هو في الحقيقة مهمة شاقة لأن معظم الذين يعملون في المعترك السياسي العربي ليست لديهم الخبرة الكافية بنظم بناء الدولة الحديثة، ولا يختلف السودان كثيرا عما يجري في بلاد العالم العربي الأخرى، وعليه الآن أن يبدأ التفكير جديا في محاولة نفادي الصراعات التي يمكن أن تدخل البلاد في أوضاع مثل أوضاع سورية و العراق، لأن المسألة في السودان لن تقتصر على صراعات طائفية بل ستتجاوز ذلك إلى صراعات قبلية وعرقية يهدد اندلاعها تكوين الدولة التي قامت على أسس جغرافية ولكنها تتجاوز الآن هذا الواقع لتدخل في صراعات لن تكون مجدية في مستقبل الأيام، وما هو مطلوب في هذه المرحلة هو التزام الحكمة وتمكين سائر الأطراف من لعب دور في حكم البلاد حتى لا يدخل السودان في صراع سيكون الأِشرس من نوعه في المنطقة. ( القدس العربي )