«كينغ كونغ» لشودساك وكوبر: من هو الوحش الحقيقي؟

من الناحية التقنية يبدو اليوم فيلم «كينغ كونغ» أشبه بلعبة أطفال. لكنه في الزمن الذي حقق فيه، أي في العام 1933، كان يعتبر مأثرة تقنية عزّ نظيرها منذ ابتكارات الفرنسي جورج ميلياس عند بدايات السينما وبدايات القرن العشرين. قد تبدو كلفة الفيلم اليوم مضحكة (75 ألف دولار)، لكنها في ذلك الحين كانت تعتبر شديدة الضخامة الى درجة ان موزعي الفيلم ركزوا على حجمها في دعاياتهم، بمقدار ما ركزوا على حجم ذلك القرد الضخم، بطل الفيلم الحقيقي، الذي زرع الرعب في نفوس المتفرجين في الصالات، بقدر ما زرعه - على الشاشة - في قلوب أهالي نيويورك حين اعتلى اضخم ناطحات سحابها وراح يهدد ويتوعد مطالباً، ليس فقط بحريته، بل بأن تعاد اليه حبيبته. وحبيبته ليست سوى امرأة حسناء من لحم ودم، أوقعه القدر في مصيدة غرامها فـ... قضى عليه، هو الذي كان يفترض به ان يقضي على الجميع.
* في ظاهره، اذاً، يبدو فيلم «كينغ كونغ» فيلم رعب، يقوم على مبدأ التفاوت الكبير بين حجم القرد البدائي فيه، وحجم الناس الآخرين. ذلك ان هذا القرد انما ينتمي كما يقول لنا الفيلم، أصلاً، الى جزيرة تعيش فيها مجموعة من حيوانات انقرضت في كل مكان في العالم إلا هناك. أما القرد كونغ، فإنه الاضخم من بينها، ومن هنا، في موطنه الأول في تلك الجزيرة، صير الى تبجيله سيداً للجزيرة ولقومها البدائيين. ولقد كان يمكنه ان يظل هكذا سيداً الى الأبد، لولا الغرام. تماماً كما كان يمكن الجزيرة نفسها ان تبقى فردوسية لولا المستكشفون السينمائيون البيض. ومن هنا يلتف الفيلم ليتخذ سمات اخرى غير السمات التي يعد بها: هنا نجدنا أمام نسخة معدّلة بعض الشيء من حكاية «جميلة والوحش» - ولكن مع نهاية أشد سوداوية بالطبع -، كما نجدنا امام فيلم يناصر البيئة، قبل ولادة الاهتمام المعاصر بالبيئة... ناهيك بأن الفيلم يقترح علينا في الوقت نفسه، ان نقف، في المقارنة بين أدغال المدينة (نيويورك هنا) وبين الأدغال البدائية، مناصرين هذه الاخيرة. وفي المحصلة الاخيرة هو، ايضاً وبخاصة، فيلم عن السينما والاستعراض. أو لعل هذا هو جوهره الخفي.
* حقّق فيلم «كينغ كونغ» في العام 1933، اذاً، انطلاقاً من فكرة للكاتب ادغار والاس، الذي عرف برواياته البوليسية اضافة الى كتابته روايات المغامرات، غير ان الفكرة التي كان يتعين عليها ان تكون فكرة فيلم مغامرات ورعب، سرعان ما اتخذت بين يدي مخرج الفيلم ومعاونته، ارنست شودساك وماريان كوبر، منحى آخر تماماً، هو المنحى الذي اقترحته الفقرات السابقة. وهذا الأمر لم يخف عن هواة هذا الفيلم الذين كانوا كثراً يوم عرض، وتكاثر عددهم اكثر مع مرور العقود. اما الجمهور العريض، فإنه اكتفى بالنظر اليه باعتباره فيلم رعب ومغامرات رائداً وتجديدياً في زمنه...
> تدور حكاية «كينغ كونغ» من حول فريق من السينمائيين توجه الى ماليزيا لكي يحقق فيلماً عن عادات بعض القبائل البدائية هناك، ومعتقداتها. وهذه الرحلة الاستكشافية قادت الفريق، وفي عداده ممثلة حسناء وعاطلة من العمل منذ زمن، الى زاوية من تلك البلاد، تعيش في أدغال غاباتها حيوانات ضخمة من النوع الذي انقرض في كل مكان آخر. ومن بين هذه الحيوانات، اذاً، ذلك القرد الضخم الذي اعتاد أهل الجزيرة ان يقدموا اليه خطيبة حسناء قرباناً في كل مرة زمجر فيها غضبه. وإذ يبدي القرد «كونغ» غضبه بعنف هذه المرة، اذ اكتشف حضور فريق التصوير، يقرر السكان ان يخصّوه بالممثلة الشابة خطيبة له، وهكذا تُخطف الفتاة من بين رفاقها وتوضع بين يدي «كينغ كونغ»... وعلى الفور ما إن تلتقي عينا القرد بعيني الحسناء، حتى يبدو واضحاً انه قد وقع في غرامها، وبات يصرّ على ان تبقى معه. لكن رفاق الفتاة لا يرون الامور من هذا المنظور، بل يسعون بالقوة او بالحيلة او بالاثنتين معاً، الى تخليصها، فلا يتمكنون من هذا فقط في نهاية الأمر، بل انهم يتمكنون من تقييد القرد العملاق ومن ثم ينقلونه على متن السفينة الى نيويورك ليقدموه فرجة استعراضية أمام عيون الجمهور المفتون والمرعوب في الآن معاً. وهكذا يجد القرد نفسه وقد نقل من ادغاله البدائية حيث كان سيداً، الى «ادغال» نيويورك حيث صار مجرد فرجة. فيغضب ويكسر ذات يوم قيوده ويبدأ البحث عن فاتنته فالتاً من مطارديه معتلياً أعلى ناطحات السحاب في المدينة. ولم يكن من شأن هذا، في طبيعة الحال، إلا ان يزرع الرعب بين السكان، وسط دهشة الحيوان نفسه، الذي تنم عيناه بكل براءة وفي كل لحظة، انه في الحقيقة لا يريد الأذى لأحد، ولا يريد سوى حبيبته وحريته. ولكن أنّى لأهل ادغال العصور الحديثة ان يفهموا هذا؟ أنّى لقلوبهم الجلفة ان تفهم الحب وأن تفهم رغبات الطبيعة؟ أنّى لها ان ترى في القرد سوى حيوان، إما ان تقيده وتستعبده وإما ان ترتعب أمامه؟ وهكذا تنطلق المدينة كلها في مطاردة عنيفة للقرد لا رحمة فيها ولا هوادة. وهو، هنا، اذ يخرّب ويدمّر، من الواضح - ووفق منظور الفيلم - انه انما يفعل هذا دفاعاً عن نفسه ضد همجية «رجل الادغال الحديثة» - ولسنا هنا بعيدين جداً من سلسلة من أفلام وأعمال أتت تالية ودانت الانسان نفسه في تعامله مع كل ما هو بدائي، ومن هذه الاعمال «عصافير» ألفريد هيتشكوك بالطبع -. المهم ان الانسان المتحضر ينتهي به الامر الى الاستعانة بسرب من الطائرات الحربية يدور ويدور من حول ناطحة السحاب التي لجأ اليها «كينغ كونغ» حتى يتمكن في نهاية الأمر من اصابته فيسقط مضرجاً بدمائه فيما عيناه تعلنان بصمته الحزين، لوعته لفقد حبيبته.
> من الواضح ان فيلم «كينغ كونغ» على رغم بساطة أحداثه وأسلوبه الخطي، الذي لا لبس فيه ولا غموض، يمكن قراءته ضمن اطار الكثير من الأبعاد، المباشرة وغير المباشرة، بل إن في الامكان ايضاً قراءته، على ضوء الصدمة الاقتصادية الكبرى التي كانت اصابت الولايات المتحدة قبل تحقيق الفيلم بسنوات قليلة، انطلاقاً من بورصة نيويورك نفسها، ما أوقع الناس في رعب من المجهول ومن المستقبل. غير ان الجديد في ذلك كله، كان المنظور الذي به نظر الى الحكاية صانعو الفيلم: انه منظور مفاجئ ومبكر يقف في خط فكري واضح - من غير ترتيب مسبق على الأرجح - مع مدرسة الانثروبولوجيا الحديثة التي بدأت مع بواس وصولاً الى كلود ليفي ستراوس، لتكف عن ان ترى في حضارة الرجل الأبيض ترياقاً للبشرية وتخلفها. فالأبيض هنا هو الوحش، هو الهمجي الذي يفتري على الطبيعة البكر. وحتى إن لم يكن هذا الأمر جديداً تماماً، في ذلك الحين، فإن أهمية «كينغ كونغ» تكمن في انه نقله من حيز الافلام النخبوية الخجولة في تعبيرها عن هذا الامر، الى حيز السينما الشعبية. وليس ادل على هذا من صحافة ذلك الزمن التي راحت، يومها، تسهب في وصف الدموع التي انهالت على الوجنات حزناً على مصير الوحش العاشق.
> بقي ان نشير الى ان أعمالاً عدة بعد «كينغ كونغ» أتت مقلدة له، في شكله الخارجي، ولكن كذلك في مضمونه. ومع هذا ظلت لهذا الفيلم مكانته بحيث انه يعتبر حتى اليوم واحداً من أجمل الافلام في تاريخ السينما، حتى وإن كان النسيان قد طوى مخرجيه الذين لم يؤثر عنهما أعمال كبيرة تضاهي هذا الفيلم. كل ما في الأمر ان احدهما، سودشاك، حقق بعده افلام رعب وتجارية عدة من بينها «مطاردة الكونت زاروف». ( الحياة اللندنية )